8- السلفية أم التجربة التاريخية للأمة؟
محمد عابد الجابري
عندما كان علماء اللغة يجمعون كلام العرب ويضعون له قواعد في الصرف والإعراب في بدايات "عصر التدوين"، في العصر العباسي الأول، كان زملاؤهم الفقهاء يؤصلون أصول الشريعة ويستنبطون الأحكام التي تستجيب لمتطلبات التطور واتساع رقعة بلاد الإسلام ويؤسسون لمذاهب في الفقه والتفسير، فكانت حاجتهم إلى معرفة "أسرار اللغة العربية" وقواعد الصرف والنحو والبلاغة مثل حاجتهم إلى جمع الحديث والسيرة والعناية بأسباب النزول الخ. فكان هذا الاجتهاد في اللغة والفقه أول مظاهر البناء العام الذي عرفته الثقافة العربية الإسلامية، وكان ذلك تجديدا في الدين وتصديقا للحديث النبوي القائل "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها".
توالى الاجتهاد والتجديد عبر العصور ووضع المؤرخون قوائم للمجددين الذين ظهروا على "رأس كل مائة سنة" طوال التاريخ الإسلامي. ومن الذي ذكروا في آخر القائمة -حسب الترتيب الزمني- محمد بن عبد الوهاب الذي عاش في القرن الثامن عشر الميلادي في الجزيرة العربية والذي ركز جهوده في محاربة "البدع" التي تنحرف بعقيدة التوحيد الإسلامية فتنسب إلى غير الله ما لا يجوز أن ينسب له من أمور تحمل سمات الشرك بالله، مثل زيارة القبور والأضرحة للتبرك والتوسل بمن دفن فيها الخ.
ويمر قرن من الزمان ونقرأ على لائحة المجددين في الإسلام اسم مجدد جديد هو الشيخ محمد عبده الذي عرَّف هو نفسه بحركته التجديدية فقال: " ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى واعتبارها من ضمن موازين العقل البشري ... والأمر الثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس". ثم يضيف: "وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه، ولكنه الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة". ويضيف: "جهرنا بهذا القول واستبداد في عنفوانه والظلم قابض على صولجانه ويد الظالم من حديد والناس كلهم عبيد له أي عبيد"!
تجديد في اللغة بالدعوة إلى نبذ "الأسلوب" الذي هيمن في "عصر الانحطاط" والذي كان قوامه السجع والتنميق اللفظي وغياب المعنى.... وتجديد في الدين بالدعوة إلى ترك التقليد و اعتماد العقل في فهم الدين... والتجديد في الفكر السياسي والاجتماعي بدعوة الأمة إلى معرفة حقها على حاكمها، وبعبارتنا المعاصرة "المطالبة بالديمقراطية والعدالة". ومن المفهوم تماما أن لا تحظى دعوة محمد عبده إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي بنفس الاستجابة –النسبية على الأقل- التي حظيت بها دعوته إلى الإصلاح اللغوي والإصلاح الديني. وقد تفهم الشيخ عبده ذلك لأن الإصلاح السياسي والاجتماعي، كما يقول: "ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنون الطوال".
ومع ذلك يجب القول إن الاستجابة لدعوة الإمام محمد عبده إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي كانت في المغرب العربي خاصة أقوى بكثير مما كانت عليه في أقطار عربية أخرى. لقد اتجهت السلفية في المغرب نحو الاندماج في الحركة الوطنية وتبني أهدافها التحديثية وانتهت بالذوبان فيها، خصوصا عندما جند المستعمرون الجماعات الدينية الطرقية والقوى المتخلفة المتعاملة معهم، ضد الوطنية والسلفية. بل يمكن القول إن الوطنية المناضلة إنما خرجت من جوف السلفية تماما مثلما أن السلفية انتشرت في جسم المجتمع المغربي وتغلبت على الطرقية، خصمها الديني، باندماجها في الحركة الوطنية ورفعها راية النضال ضد المستعمر وأعوانه وعملائه. كل ذلك جعل حمولة مفهوم "السلفي" تتوسع ليشمل في آن واحد: محاربة الاستعمار، ومحاربة البدع والتقاليد الاجتماعية "الشعبية"، والدعوة إلى التجديد والتحديث في كل مجال في الفكر والسياسة والاجتماع، وأيضا في مجال وضعية المرأة، بالدعوة إلى السفور وتعليم المرأة وإدماجها في الحياة العامة الخ.
غير أن الحديث عن السلفية سيظل ناقصا وغير تاريخي إذا ما اقتصر على التركيز على الوجه الذي أبرزناه وأغفل الباقي. ونعني بالباقي تمسك بعض السلفيين بنموذج "السلف الصالح" الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية قبل "ظهور الخلاف" بوصفه النموذج الخالد الذي يجب الانغلاق داخله، هذا في حين أن جميع التيارات السلفية التي عرفها التاريخ الإسلامي من الحسن البصري إلى محمد بن عبد الوهاب إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إنما كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية للأمة، أحد مظاهرها الإصلاحية، بل أحد مظاهر الإصلاح فيها.
ثمة جانب آخر لابد من التنبيه إليه وهو أن جميع الحركات السلفية التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي، كانت بمثابة تعبير عن عملية إعادة التوازن الذاتي للمسار الذي اتخذه هذا التاريخ منذ ظهور الاسلام. وبعبارة أدق إن السلفية كانت دائما ذلك الجزء من التجربة التاريخية للإسلام السني الذي تستعيد منه هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار. فهي إذن نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ. وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العالم لعصرها، أعني غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة أخرى معاصرة لها على صعيد الزمن.
ومعلوم أن الحضارة المعاصرة التي نحياها اليوم والتي تفرض نفسها كحضارة للعصر الحاضر كله، هي شيء آخر جديد تماما، يقع خارج الحضارة العربية الإسلامية التي أصيبت بالتراجع، وفي ذات الوقت ينافسها ويهددها من خارجها وفي عقر دارها... وبالتالي فالتجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، تجربتها الراهنة مع الحضارة المعاصرة لا يكفي فيها استلهام نموذج "السلف الصالح" وحده. فهذا النموذج إنما كان نموذجا كافيا لنا يوم كان "التاريخ" هو تاريخنا، يوم كان العالم كله "يقع" في عقر دارنا، يوم كان من الممكن للخليفة العباسي هارون الرشيد أن ينظر إلى السماء ويقول للسحابة، اذهبي أنى شئت فسيأتيني خراجك! لقد تغير الوضع اليوم وأصبحت الرأسمالية الغربية العولمية هي وحدها التي يمكنها أن تقول مثل ذلك القول عندما تسمع أزيز السيارات والطائرات والصواريخ وما أشبه.
وإذن، فيجب علينا جميعا أن نقتنع –إذا كان بعضنا ما زال لم يقتنع- أننا اليوم لم نعد وحدنا في العالم، و أنه من المؤكد أننا لن نكون وحدنا في المستقبل، على الأقل بالنسبة للمدى المنظور.. وعليه فالنموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات، ذاتنا نحن، وتحصينها وتلقيحها ضد الاستلاب والذوبان والاندثار، ينبغي ألا يكون من نوع "النموذج- السلف" الذي يقدم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضا- ولم لا؟- من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع.
لقد كانت السلفية كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا قي بيت هو بيتنا وبيت لنا في نفس الوقت. أما وقد أصبحنا جزءا في كل فإن الطريق الوحيد لإثبات وجودنا والحفاظ على خصوصيتنا داخل هذا الكل هو طريق التعامل معه بالمنطق الذي يؤثر فيه، منطقه هو، ولكن من مواقعنا لا من مواقع غيرنا. ومنطق هذا الكل الذي ننتمي إليه اليوم، أعني منطق الحضارة المعاصرة، يتلخص في مبدأين: العقلانية والنظرة النقدية. العقلانية في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة، للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والإيديولوجيا. هذا في حين أن منطق "سيرة السلف الصالح" التي تمثل "المدينة الفاضلة" في التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، كان شيئا آخر! كان منطقا يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة. وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط وليس عصر علم وتقنية ومصالح وإيديولوجيات وصراعات دولية وطموحات للهيمنة العولمية...
نعم إن منطق الإيمان هذا صالح في كل زمان ومكان، وللناس عامة وللمسلمين خاصة لأنه من تراثهم، ولكنه في العصر الحاضر صالح فقط، كخلقية، كموجه للسلوك في علاقة المرء مع نفسه ومع أقاربه وعموم الناس، وقبل ذلك وبعده :مع ربه، مع استشرافاته الأخروية.
وصحيح تماما أن الاسلام ليس مجرد "سيرة سلف" مضى وانقضى... بل هو، كما يؤمن بهذا كل مسلم، صالح لكل زمان ومكان. غير أن تأكيد هذا بالقول شيء، وترجمته إلى الواقع شيء آخر. على أن جميع أهل الديانات، قديما وحديثا، يؤمنون بأن دياناتهم صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك يتمسكون بها ويعتبرونها تمثل الحقيقة العليا وتنطق بها. وإذن فالمسألة ليست مسألة ما إذا كان الاسلام صالحا لكل زمان ومكان، فهذا ما يؤمن به كل مسلم، ولن يبقى المسلم مسلما إذا شك لحظة في هذه المسلمة الإيمانية، ولكن المسألة المطروحة، والتي يجب طرحها دائما، هي مسألة ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم، على أن يدشنوا "سيرة" صالحة جديدة تكمل "سيرة السلف" الصالحة القديمة، وتجعل منها واقعا حيا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء "سيرتـ"ـهم الخاصة.
إنها التجربة التاريخية للأمة هي التي يجب تحيينها- أي جعلها حية في الحاضر- بتدشين فصل جديد فيها، يمكنها من الدخول في العصر الحاضر، هذا العصر الذي يصر كل شيء فيه إصرارا، وكل يوم وكل ساعة، على أنه عصر "الخلف" وليس عصر"السلف".