السابق

 

7- إعادة ترتيب مسائل النحو وصياغة قوانين الإعراب

 

محمد عابد الجابري

تكتسي مسألة ترتيب موضوعات علم من العلوم أهمية قصوى من الناحيتين: الإبيستيمولوجية والبيداغوجية معا. فمن الناحية الأولى لا يمكن استيعاب تلك الموضوعات استيعابا شاملا ما لم تصنف وترتب على أساس منهجي منطقي. ومن الناحية الثانية لا يمكن تعلميها بسهولة ويسر ما لم تكن القسمة فيها حاصرة متسلسلة مترابطة يؤدي السابق منها إلى اللاحق ولا يتقدمه.

ولكي يتحقق ذلك في النحو العربي يرى ابن رشد أنه لا بد من إعادة بناء مسائله وفق المبدأ المنهجي الذي يراعى في سائر العلوم، والذي يقول: "البسيط من كل شيء قبل المركب". وبناء عليه فـالترتيب العلمي لموضوعات النحو العربي يقتضي الابتداء بالألفاظ المفردة أولا، تليها الألفاظ المركبة (الجمل)، ثم اللواحق بعد ذلك، والهدف دراسة "الأشكال" (أو الصيغ) التي تكون عليها هذه الألفاظ. وهذا ما يتناوله ابن رشد في القسم الأول من كتابه. أما الإعراب وهو أهم أقسام النحو وأكثرها فائدة فيخصص له القسم الثاني. مبتدئا بحصر أصنافه حسب أصناف الكلام، ويحصر كل صنف حسب أصناف العوامل الداخلة عليه.، مراعيا المبدأ العلمي السابق :"البسيط من كل شيء قبل المركب".

وبناء عليه فالمعربات صنفان : الألفاظ المفردة التي تتألف منه الجمل، وهذه الجمل نفسها، وبالتالي فقوانين الإعراب ستكون صنفين: قوانين تخص الألفاظ المفردة التي تتركب منها الجمل، وقوانين تخص الجمل نفسها. ولما كان اللفظ لا إعراب له إلا ذا كان جزءا من جملة، وكانت الجمل صنفين، بسيطة ومركبة، والبسيط منها جمل إما خبرية (مبتدأ وخبر، فعل وفاعل) وإما إنشائية (أمر، نهي، نداء، تعجب الخ)، وكانت الخبرية صنفان : صنف مركب تركيب تقييد معنوي (بفعل أو حرف)، وصنف مركبة تركيب تقييد لفظي، انقسمت قوانين الإعراب كذلك إلى هذه الأصناف.

ولما كان المجال هنا لا يسمح بتتبع ابن رشد في عملية إعادة بناء النحو العربي خطوة خطوة، فإننا سنقتصر على جملة أمثلة، تخص بعض قوانين الأعراب كما صاغها ابن رشد:

1- قوانين القول الخبري البسيط غير المقيد:

لما كان هذا الصنف لا يكون فيه إلا تركيب جزئي واحد، ففيه قانون واحد هو : "كل اسم يكون خبرا أو مخبرا عنه، من غير أن يدخل على الجملة لا فعل ولا حرف عامل، لا مقدر ولا مظهر، فهو مرفوع : المبتدأ والخبر، والفاعل، ونائب الفاعل (باعتبار الفاعل ونائبه مخبر عنهما بالفعل). ثم يشرح الأحوال التي تعتري الفعل الذي يخبر عنه (= صيغ الفعل المبني للمجهول)، والأحوال التي تخص الاسم الذي يخبر عنه بهذا الفعل حسب ما يكون هذا الفعل متعديا بغير حرف الجر أو متعديا به، متعديا إلى فعل واحد أو إلى فعلين الخ.

2- قوانين القول الخبري المقيد بالأفعال، وهي خمسة :

1- كل جملة من ابتداء وخبر دخل عليها كان وأخوتها فالمبتدأ على حاله مرفوع والخبر يعود منصوبا، إلا أن يتقدم الاسم على كان (زيد كان منطلقا) فيعرب مبتدأ وخبر كان ضمير مستتر.( ثم يذكر أخوات كان، ويميز بين "كان" التامة، و"كان" الناقصة وأحكامهما).

2- كل جملة خبرية دخل عليها لفظ "ظننت" أو "أعلمت" وأخواتها من أفعال النفس فإن هذه الأفعال إذا تقدمت في ترتيب الكلام في الجملة الخبرية نصبت المبتدأ والخبر (ظننت زيدا قائما)، فإن توسطت بين المبتدأ والخبر أو تأخرت عنهما جاز النصب والرفع: تقول: زيد ظننت منطلقٌ، وزيدا ظننته منطلقا.

3- كل اسم جنس دخل عليه بئس أو نعم فإن كان فيه الألف واللام فهو مرفوع، والاسم الذي خصص به الاسم العام مرفوع أيضا: نعم الرجلُ زيدٌ. ولهم في رفعه مذهبان أحدهما أنه مبتدأ وخبر، والآخر أنه خبر المبتدأ. وإن كان الاسم، الذي قيد بنعم أو بئس، نكرة فهو منصوب والمخصص له مرفوع: نعم رجلاً زيدٌ. ولا يقيد بهذين الفعلين إلا أسماء الأجناس وما يضاف إلى أسماء الأجناس، لا أسماء الأعيان.

4- كل اسم أخبر عنه بـ "حَبَّ" موصولا بـ "ذا"، نحو حبذا زيدٌ، فهو مرفوع، ولا يقع هذا الاسم أبدا في كلامهم إلا مؤخرا عن حبذا. وللنحاة في رفعه ثلاث مذاهب: أحدها على أنه مبتدأ، والثاني على أنه خبر، والثالث على أنه فاعل يرتفع بحبذا.

5- كل اسم دخل عليه عسى أو كاد أو قارب وما أشبه ذلك من الأفعال فإنه مرفوع، والخبر في هذا القول إذا كان فعلا مع عسى فالأجود أن تكون مع "أَنْ" نحو عسى زيد أن يحج. وأما "كاد" فالجود أن تكون بغير "أن" : كاد زيد يدخل المدينة، ويجوز خلاف هذا. وقد يقع الخبر في عسى اسما في مثل قولهم :عسى الغوير أبؤسا.

3- قوانين الخبر المقيد بالحروف، وهي أربعة:

1- كل قول مؤلف من ابتداء وخبر دخل عليه إن وأخواتها فإن المبتدأ يعود منصوبا ويبقى الخبر على حاله مرفوعا، نحو إن زيدا منطلقٌ. (يلي ذلك ذكر مواضع كسر إن وفتحها وتخفيفها وخواص كل منها الخ).

2 - كل جملة خبرية دخل عليها حرف "ما" النافية، فإن المبتدأ يبقى على حاله مرفوعا (ما زيدٌ قائم). وينتصب الخبر على لغة أهل الحجاز إلا أن يدخل على "ما" حرف "إلا" الذي يوجب ما نفته "ما" متقدما الخبر: ما زيدٌ إلا قائم. وفي لغة بني تميم لا تؤثر شيئا في الابتداء والخبر.

3- كل جملة خبرية دخل عليها حرف "لا" النافية، فإن كانت داخلة على اسم جنس وأردنا استغراق النفي فإنك تجعل "لا" والاسم كاسم واحد وتبنيه على الفتح: لا رجلَ في الدار، وإن لم ترد نفي الجنس بقي على حاله مرفوعا. فإذا كررت حرف "لا" فقلت لا رجل في الدار ولا امرأة، كان لك أن ترفع الاسمين جميعا وتنونهما، ويجوز أن تنصب الأول وترفع الثاني أو تنصبهما جميعا...

4- كل جملة خبرية قيدت بـ "ما" التي للتعجب فإنها تنصب الاسم المتعجب الواقع في الجملة، تمييزا بين هذا الشكل وشكل النفي، فتقول في التعجب : ما أحسنَ زيدًا. وفي النفي: ما أحسنَ زيدٌ (لم يحسن)، وتقول في الاستفهام: ما أحسنُ زيدٍ؟ فتخفض. وفعل التعجب هذا لا يبنى عندهم من الفعل الرباعي إلا بأشد أو أكثر، كما لا يبنى من الخلق والألوان إلا شاذا، والشائع أن تقول: وأكثرهم أدبا، وأشدهم بياضا...

4- قوانين الخبر المقيد بالاسم،

وهي ثلاثة أجناس: قيود الأسماء التي هي ألقاب، قيود الأفعال، قيود الأسماء التي تعمل عمل الفعل:

- قيود الأسماء:

1- كل اسم قيد باسم تقييد الإضافة فالمضاف إليه مخفوض، والمضاف يعرب بإعرابه الذي يخصه، وخاصته أن لا ينون ولا يلحقه نون التثنية والجمع بل يحذف منه جميع ذلك: غلامُ زيدٍ، غلاَما زيدٍ، ضاربو زيدٍ. ومن الأسماء ما لا ينفك من الإضافة نحو: مثل وشبه، وكثير من الظروف.

2- كل اسم قيد باسم على جهة النعت والوصف فإنه تابع في إعرابه للموصوف إذا كانت الصفة والموصوف كلاهما نكرة أو معرفة. فإن كانت الصفة نكرة والموصوف معرفة انتصبت الصفة انتصاب المنصوب الذي يسمى حالا : جاءني زيد راكبا. وكذلك إذا كان كلاهما نكرة وتقدمت الصفة على الموصوف نحو جاءني راكبا رجلٌ. وإذا كان كلاهما نكرة فالوجه فيه الاتباع: جاءني رجل راكبٌ، وقد يجوز النصب على الحال نحو مررت برجل راكباً. وإذا تكررت النعوت جاز الاتباع وجاز قطع بعضها من بعض إما بالرفع على تقدير الابتداء والخبر، وإما بالنصب على إضمار "أعني" نحو قولك مررت بإخوتك العقلاء الكرام الباذلين للمال، أو الباذلون. ولا يسقط التنوين من الاسم الموصوف إلا إذا وصف الاسم العلم بابن : زيدُ بن عمرو.

3- كل اسم جنس من أجناس العدد قيد بمعدوده من الحادي والعشرين إلى التسعين وقع مجملا في القول الخبري فخصص بنوعه، فإن ذلك الاسم منصوب. وما وقع من الثلاثة إلى العشرة فهو مخفوض. والأول يميز باسم واحد من جنسه، والآخر باسم جمع، كقولك: هذه عشرون درهما وهذه خمسة دراهم … وكل اسم عدد قيد بمعدود من الثلاثة إلى العشرة فإن المعدود مخفوض على طريق الإضافة كقولك: عندي ثلاثة أثوابٍ وخمسة أفراسٍ، وكذلك تعمل في عشرات الآلاف تقول: ثلاثة مائة وثلاثة آلاف. فإن كان العدد لِمَكيل جاز أن يميز المعدود بالنصب والخفض: عندي خمسة أرطال زيتا أو زيتٍ.

4- كل اسم نوعٍ وقع خبرا في الجملة الخبرية فخصص بمادته، أعني بمحله، فإنه يجوز فيه النصب على التشبيه بالتمييز الواقع في جنس الكمية، والخفض على الإضافة، والاتباع على النعت، أعني إن كان المنعوت مرفوعا فالنعت مرفوع، وإن كان منصوبا فمنصوب، وإن كان مخفوضا فمخفوض: هذا خاتمٌ حديداً، على التمييز، وحديدٍ على الإضافة، وحديدٌ على الصفة، لأنه احتمل الثلاثة معان.

***

يبقى بعد ذلك الكلام عن القول المركب تركيب تقييد لفظي (البدل، عكف البيان، التوكيد الاستثناء). ثم قوانين الجمل المركبة الثواني كالجمل الشرطية والجمل الواقعة موقع الحال أو المفعول والجمل المعطوفة الخ. ثم قوانين إعراب الجمل الإنشائية وهي الجمل التي تفيد الأمر والنهي والدعاء والتمني والتحضيض. ثم قوانين الأشكال التي لا تسمى إعرابا (الحكاية، وما ينصرف) وأخيرا قوانين الأفعال، المبني منها والمعرب...

ويختم ابن رشد بالتأكيد مرة أخرى على أن "هذا النحو الصناعي" الذي قدم به مسائل النحو والذي ركز فيه على الإعراب هو أنفع وأيسر في تعليم الأولاد. ونحن نرى أنه أنفع للكبار أيضا! يكفي أن نتذكر الصعوبات التي تعترضنا عندما نبحث في كتب النحو، القديمة منها والجديدة، عن مسألة من مسائل الإعراب التي صاغها ابن رشد في قوانين كلية عامة ...

وبعد فقد دعا ابن رشد إلى التجديد في كافة فروع الثقافة العربية وأنجز مشاريع في النحو والفقه والطب والفلسفة ... نبهنا عليها بكلام عام، ثم تناولنا، في سياق حديثنا عن التجديد في اللغة، مشروعه في التجديد في النحو بصورة أكثر تفصيلا. يبقى مشروعه في التجديد في مجال السياسة، وسنؤجل الكلام فيه إلى حين انتقالنا إلى هذا المجال.