السابق

 

4- نوع آخر من المستعمل يجب أن يهمل.

 

محمد عابد الجابري

من بين العلوم الإنسانية التي حققت تقدما هائلا في العقود الأخيرة: علم اللسانيات أو الألسنية. وقد استفادت اللغات الأوربية وتستفيد من نتائجه التطبيقية في إعادة تأسيس وهيكلة علم النحو فيها، فغدت قواعد اللغة في كثير من تلك اللغات تصاغ وتدرس لأبناء البلد وللطلبة الأجانب بصورة تختلف كثيرا عما كانت عليه منذ نصف قرن من الزمان. وإذا كانت القواعد ذاتها لم تتغير فإن طريقة عرضها وضبطها وأسلوب التعبير عنها قد عرفا من التجديد والتيسير والضبط ما جعل من الدرس النحوي المعاصر فيها، معاصرا فعلا، بمنهاجه ومضمونه، فغدا يعتمد أكثر فأكثر على مفاهيم جديدة كمفهوم البنية والنمط والنموذج وغيرها من المفاهيم التي تشكل في الفكر المعاصر "مفاتيح العلوم"، سواء منها العلوم الرياضية والفيزيائية أو العلوم الإنسانية.

ونحن في العالم العربي ما زلنا في مؤخر القافلة/ أو على الأصح نحن واقفون وراءها نتفرج. إننا لا ننكر أن هناك اهتماما متزايدا بالألسنية المعاصرة في كثير من الجامعات العربية، كما أننا نعرف أن كثيرا من المجلات الثقافية عندنا تعمل، إما بالترجمة وإما بالعرض والتلخيص، على "إطلاع" القارئ العربي، على بعض مسائل هذا العلم الجديد. غير أن ما يتداول عندنا من أبحاث وآراء ويجري من مناقشات ما زال معظمه، إن لم يكن كله، أجنبيا، بمعنى أن حظ اللغة العربية فيه سواء كميدان للبحث أو للتطبيق حظ ضئيل جدا

نحن نعلم أن الألسنية المعاصرة هي علم عام للغة، وبالتالي فالمتخصصون فيها يعتبرون ما يتوصلون إليه من قوانين ونتائج، قوانين ونتائج عامة لا تخص لغة دون لغة. ومع ذلك فإنه لا أحد ينكر أن لكل لغة خصوصيتها، وأن درجة هذه الخصوصية تختلف من لغة إلى أخرى. فاللغات التي هي من أرومة واحدة كاللغات المتفرعة من اللاتينية هي لغات متقاربة الخصوصية، بينما أن هناك لغات من أرومة مختلفة تماما لا نظن أنها تقبل أن تطبق عليها النظريات الألسنية الرائجة اليوم بمثل الدرجة التي تطبق بها في اللغات الأوروبية التي تشكل المجال اللغوي الأساسي الذي استخلصت منه تلك النظريات.

واللغة العربية كما نعرف جميعا تنتمي إلى أرومة تختلف أصلا عن أرومة اللغات الأوروبية، ولذلك فحاجتنا إلى "ألسنية عربية" هي من جنس حاجتنا إلى "علم اجتماع عربي". نريد أن نقول: إنه، كما لا يجوز تطبيق نتائج الأبحاث الاجتماعية التي تجرى في المجتمع الأمريكي، مثلا، على المجتمع العربي، فكذلك لا يجوز أن تطبق نتائج الأبحاث اللسانية التي تجرى في اللغات الأوروبية الحديثة على اللغة العربية تطبيقا استنساخيا.

وما يهمنا من هذه المسألة التي أثرناها هنا ليس الألسنية ذاتها ولا حتى تحديد درجة قابلية نتائجها للتطبيق على لغة كاللغة العربية، بل ما يهمنا أساسا هو الدعوة مرة أخرى- فقد سبقت دعوات مماثلة- إلى التفكير في تجديد النحو العربي، نقصد بذلك جعله معاصرا للغة العربية التي نريدها معاصرة، وهنا كما في مجالات أخرى نريد أن نربط، في دعوتنا إلى "تدوين" جديد لقواعد اللغة العربية، بين الاستفادة من علم اللسانيات المعاصر، مناهج ونتائج، وبين الاستفادة من الدرس الذي يمكن استخلاصه من الظروف والملابسات التي تحكمت في وضع النحو العربي في عصر التدوين على يد الخليل وسيبويه والكسائي ومن عاصرهم أو جاء بعدهم من النحاة.

وهنا لا بد من التذكير أولا بأن الشكوى من مبالغة النحاة في التقعيد والتعسف في التعليل والتنظير شكوى قديمة. وقد احتفظت لنا كتب الأدب بنوادر تعبر عن تضايق واستغراب أهل اللغة العربية، أعني أولئك الذين كانوا يتكلمونها بالسليقة، من تعسف النحاة في التنظير لـ"كلام العرب" ومناقشاتهم لتراكيبه وعباراته. وما مخاطبة أحد الإعراب لجماعة من النحاة سمع مناقشتهم، قائلا: "إنكم تتكلمون قي كلامنا بكلام ليس من كلامنا"، إلا واحد من المؤشرات التي تدل على أنه كان هناك وعي مبكر، بابتعاد النحاة عن حدود "المعقول".

ولم يكن أصحاب السليقة هم وحدهم الذين تضايقوا من تفريعات النحاة وتأويلاتهم، بل لقد انتقلت عدوى "الثورة على النحاة" إلى علماء كبار من أمثال ابن حزم الأندلسي الذي وجه نقدا لاذعا لتأويلات وتفسيرات النحاة خاصة منها ما يتعلق بما سموه بـ"العلل" (العلل النحوية). قال أبو محمد ابن حزم عن هذه "العلل": إنها "كلها فاسدة لا يرجع منها شيء إلى الحقيقة البتة، وإنما الحق من ذلك أن هذا سُمع من أهل اللغة الذين يرجع إليهم في ضبطها ونقلها، وما عدا هذا، مع أنه تحكم فاسد متناقض، فهو أيضا كذب، لأن قولهم: كان الأصل كذا فاستثقل فنقل إلى كذا... ، شيء يعلَم كل ذي حس أنه كذب لم يكن قط، ولا كانت العرب عليه مدة، ثم انتقلت إلى ما سمع منها بعد ذلك"، وإنما هو من عمل النحاة وتعليلاتهم التنظيرية الخيالية. من أجل ذلك دعا ابن حزم إلى الاكتفاء في النحو بما هو ضروري لمعرفة قواعد اللغة العربية وترك تعليلات النحاة جانبا. يقول "وأما التعمق في علم النحو ففضول لا منفعة بها، بل هي مشغلة عن الأوكد، ومقطعة دون الأوجب والأهم، وإنما هي أكاذيب. فما هو الشغل بما هذه صفته؟ وأما الغرض من هذا العلم فهي المخاطبة، وما بالمرء حاجة إليه في قراء الكتب المجموعة في العلوم فقط ".

ويأتي ابن مضاء القرطبي، بعد أكثر من قرن ليؤلف كتابا بعنوان "الرد على النحاة"، كرر فيه دعوة ابن حزم بأسلوب هادى فنادى بإلغاء نظرية العامل في النحو، وما تقوم عليه من تعليل وقياس، والاكتفاء بتقرير القواعد، كتقرير أن الفاعل مرفوع دون البحث عن من "فعل" الفعل ولا عن السبب الذي من أجله كان الرفع لا النصب.

غير أن دعوة ابني مضاء القرطبي بقيت صيحة في واد، فبقي النحو العربي كما كان مثقلا بكثير من التعليلات والتخريجات التي لا تفيد وظيفة النحو في شيء، بل بالعكس تعقدها وتجعل من الوسيلة غاية ومن الأداة هدفا. وعندما أثيرت قضية النحو العربي في العقود الأخيرة- منذ الخمسينات- انقسم ذوو الاختصاص من الباحثين واللغويين العرب المعاصرين إلى قسمين: قسم يطالب بإلغاء نظرية العامل واتخاذ ذلك منطلقا لتبسيط النحو العربي وتحديثه، وقسم يدافع عن تلك النظرية بوصفها تشكل قوام النحو العربي وأساس أصالته وخصوصيته، الشيء الذي يجعل من إلغائها إلغاء لقواعد اللغة العربية ككل، في نظرهم.

نحن لا نريد الدخول في نقاش يقع خارج اختصاصنا، وإذن فكل ما نريده، هو أن ننبه إلى مسألة تنتمي إلى الميدان الذي نشتعل فيه، ميدان البحث الإبيستيمولوجي في تراثنا، وهو ميدان العلوم العربية في تداخلها وترابطها على مستوى المنهج والمفاهيم وأسس التفكير وطرائقه. نريد أن ننبه إلى أن نظرية العامل في النحو هي، من الناحية الإبيستيمولوجية، امتداد لجملة من المبادئ والقواعد التي كرستها مناقشات المتكلمين لتصبح عبارة عن مبادئ تؤسس الحجاج والجدال في علم الكلام. وبما أن معظم النحاة الأوائل كانوا متكلمين، وبما أن علم الكلام كان يعتبر علما عقليا، فلقد كان من الطبيعي أن تؤسس تواعد التفكير في علم الكلام البحثَ والنقاش في العلوم العربية الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها النحو. ومن جملة تلك القواعد مجموعة من المبادئ تؤسس، معرفيا، ما يسمى في النحو بـ "نظرية العامل".

من هذه المبادئ مبدأ يصوغه النحاة هكذا: "لكل فعل فاعل"، وهو صياغة نحوية لمبدأ من مبادئ المتكلمين يعبرون عنه بقولهم: "لكل حادث محدِث"، وهي القضية العامة التي يوظفونها في برهنتهم على حدوث العالم. ومن ذلك أيضا قول النحاة: "لا يكون للفعل إلا فاعل واحد"، وهذا أيضا صيغة لمبدأ المتكلمين القائل: "لا يمكن أن يكون العالم من صنع الهين، لأنه لو كان هناك أكثر من إله واحد لحصل التنازع بينهما"، ومن هنا "باب التنازع" في النحو. أما المبدأ النحوي القائل "لا يجوز التقاء ساكنين" فهذا امتداد لمبدأ المتكلمين القائل: "العرض لا يبقى زمانين". ذلك لأنه بما أن الحركة عندهم عرض والسكون عرض، فإنه لا يمكن أن يبقى السكون ولا الحركة أكثر من "آن" واحد. و"الآن"، أو "الوقت" عندهم هو أصغر جزء من الزمان لا يقبل القسمة إلى ما دونه فهو جوهر فرد. وإذن، "لا يجوز التقاء ساكنين" لأن بعد كل سكون حركة وبعد كل حركة سكون، بل سكون الشيء عندهم هو بقاؤه متحركا في مكانه، كما أن الحركة هي مجموعة من السكنات والحركات. لقد نقل النحاة هذا التصور للحركة والسكون إلى النحو مثقلا بمضامين بعيدة عن النحو، مضامين كلامية ميتافيزيقية. ومثل ذلك فعلوا في "العلة" و"القياس"...حتى جاءت العلل النحوية من جنس علل المتكلمين، كما لاحظ القدماء ذلك.

هكذا اتخذ النحو العربي صورة "منطق اللغة" بدل أن يكون مجرد قواعد لها. وهذا الفهم المنطقي للنحو كان النحاة يعونه ويكرسونه، وذلك ما أكده السيرافي النحوي في مناظرته المشهورة مع متى المنطقي حينما قال "والنحو منطق، ولكنه مسلوخ من العربية. والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة"، مؤكدا خلط النحاة بين قواعد اللغة وقواعد التفكير، تماما كما كان المتكلمون يفعلون.

لنختم إذن بالقول إن تبسيط النحو العربي أو تجديده، وبعبارة أفضل إعادة تدوينه، يجب أن تنطلق من التحرر من الأسس غير اللغوية التي كان يصدر عنها النحاة القدماء والتي كانت تنتمي إلى علم غير علمهم... إنه نوع آخر من "المستعمل" الذي يجب أن يهمل.