10- الدعوة شيء ... والاجتهاد شيء آخر
محمد
عبد الجابريمن الملاحظ في السنين الأخيرة، مع انتشار ما يعرف بـ "الإسلام السياسي"، أن كثيرين من المحسوبين على هذا التيار يبادرون، بناسبة أو بغير مناسبة، بالتصريح- بل بالترويج- لما يسمونه "رأي الدين" في هذه المسألة أو تلك، يفعلون ذلك إطار من "الدعوة" أشبه ما تكون بالدعاية "العامية" التي لا تراعى فيها لا قدسية الدين ولا الشروط الضرورية في كل من يتقدم للكلام باسمه. هذا في حين أن الدعوة إلى الدين –حتى ولو استوفت شروطها- شيء والإفتاء باسم الدين شيء آخر. الدعوة حض وترغيب وجدال بالتي هي أحسن، أما الإفتاء فهو اجتهاد. الدعوة خطابة وقدرة على الاستمالة، فهي تخاطب الوجدان، وهدفها نشر العقيدة. أما الاجتهاد فجهد عقلي وعمل علمي هدفه تطبيق الخلقية الإسلامية وتعميمها على سلوك المؤمنين، في متخلف المجالات الدينية منها والدنيوية، ولذلك كان يتطلبه كل ما يتطلبه البحث العلمي من حياد وموضوعية وقدرة عقلية على ربط الجزئيات بكلياتها...
ومنذ ظهور الاسلام والدعوة والاجتهاد يسيران على خطين متوازيين، يجمعهما الهدف المشترك، ولكن دون أن يختلط أحدهما بالآخر أو يقوم أحدهما مقام الآخر. وهذا ينطبق على الرسول نفسه عليه الصلاة السلام. لقد كان يقوم بالدعوة، أعني بتبليغ رسالة التوحيد من دون أن يحتاج إلى استشارة أحد من صحابته، يسير في ذلك على هدى القرآن وحده. ولكن عندما يتعلق الأمر بشؤون الحياة فإنه كثيرا ما كان يستشير الصحابة، وأحيانا كان يتوقف عن الجواب انتظارا للوحي، وقد يحدث أن يقول برأي ثم يعدل عنه لاختلاف الظروف والمناسبات. ويسمى هذا نسخا في السنة، والنسخ في القرآن معروف وهو من هذا القبيل.
الاجتهاد، إذن، شيء والدعوة شيء آخر، ولكل مجاله. فالكلام في "الحجاب" مثلا مسألة اجتهاد، وآراء المجتهدين فيه قد تختلف اختلافا يسيرا أو كبيرا حسب الظروف والأحوال، وأيضا حسب انتماء المجتهد لهذا المذهب الفقهي أو ذلك.. أما الدعوة فليس لها أن تتكلم في جزئيات الشريعة -والحجاب منها- إلا إذا كانت دعوة لصالح مذهب وضد مذاهب أخرى، وفي هذه الحالة تكتسي، ولا بد، طابع المذهبية التي غالبا ما تحركها الاعتبارات السياسية.
الاجتهاد هو أولا وقبل كل شيء جهد فكري. وغني عن البيان القول إن الجهد الفكري المطلوب بذله، سواء في هذا المجال أو ذاك، يختلف، أسلوبا وأدوات أي منهجا، باختلاف المشاكل التي يراد حلها والمسائل التي يقصد الباحث- أو المجتهد- معالجتها. وبما أن مشاكل عصرنا تختلف نوعيا عن مشاكل الماضي، فمن الضروري أن يكون الجهد الفكري المطلوب في المجتهد اليوم مختلفا اختلافا نوعيا كذلك عن الجهد الذي كان مطلوبا في مجتهدي الأمس. وهذا بين بنفسه. ولكن "البين بنفسه" قد يلحقه الغموض، خصوصا عندما يقع الخلط بين الكليات والجزئيات، أو بين الأصول والفروع، أو بين المختلفات والمؤتلفات، كالخلط القائم اليوم في أذهان كثيرين بين الدعوة والاجتهاد، أو بين الاجتهاد وما كان يحتاجه بالأمس، والاجتهاد وما يتطلبه اليوم.
وفي هذه النقطة بالضبط نريد أن ندلي بمزيد بيان.
لنلاحظ أولا أن حياتنا نحن العرب والمسلمين كانت إلى نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن تشكل نمطا واحدا منذ ظهور الاسلام، أي أنها كانت تتم ضمن معطيات حضارية، اقتصادية واجتماعية وسياسية ومؤسساتية، ظلت هي هي، في طبيعتها وجوهرها. نعم كانت هناك نوازل جديدة كثيرة تواجه المسلمين، غير أنها كانت كلها من جنس النوازل "القديمة" التي عالجها عهد النبوة وعصر الصحابة. ولذلك كان المنهج المعتمد في الاجتهاد يقوم على القياس: قياس جزئيات على جزئيات، قياس ما لم يرد في حكمه نص على ما ورد فيه نص، قياس ما يستجد من النوازل والوقائع والمشاكل على "مثال سبق"، أي على وقائع ونوازل سبق أن حُكم فيها بحكم، إما استنادا إلى نص أو إلى إجماع أو إلى اجتهاد مجتهدين سابقين.
ولقد كان من الطبيعي أن يتم، مع مرور الزمن وكثرة المجتهدين، استنفاد كل الإمكانات التي يمكن أن يوفرها هذا النوع من القياس: فجزئيات الماضي، وهو متشابه متجانس، محصورة أو يمكن حصرها، والنصوص الشرعية محدودة، والاجتهاد في فهم ألفاظها وتحديد دلالاتها كان لا بد أن يصل إلى نقطة لا يبقى معها مزيد، فكانت النتيجة المحتومة هي "انغلاق " باب الاجتهاد، وليس "إغلاقه " كما يقال.
انغلق باب الاجتهاد عندما لم يعد هناك مجال للمزيد من الاجتهاد ضمن الإطار الحضاري الذي كان المسلمون يعيشون فيه. فعندما تمت تغطية جميع المشاكل المطروحة والتي يمكن أن تطرح داخل نفس الإطار الحضاري، وعندما تم استثمار جميع الإمكانات التي يتيحها النص من حيث علاقة اللفظ بالمعنى واستنفدت السوابق التي يصح القياس عليها... الخ، كان لا بد أن ينغلق باب الاجتهاد من تلقاء نفسه لينفسح المجال للدعوة إلى التقليد: تقليد أئمة أربعة انحصر فيهم الاجتهاد الفقهي، فتحولت اجتهاداتهم إلى "مذاهب" أربعة تحظى وحدها بالاعتراف والتقليد.
ومع ذلك كله لا يمكن أن يقال إن الاجتهاد قد توقف بصورة نهائية، بل لقد كان يظهر من حين إلى آخر علماء ينادون بترك التقليد وإنقاذ الفكر الفقهي مما آل إليه من الجمود في حلقة "الخلافيات" المفرغة. ومن دون شك فلقد كانت هذه النداءات وما رافق بعضها من محاولات، نابعة من إدراك ووعي بالمسافة التي كانت قد بدأت تفصل بين الوقائع القديمة والوقائع المستجدة، بين طبيعة تلك ونوعية هذه. وقد بدأ مثل هذا الشعور بالأندلس خاصة حيث تضافرت عدة عوامل تاريخية وفكرية وسياسية جعلت المسافة هناك بين "المثالات" السوابق والمستجدات اللواحق أوسع وأعمق مما كان عليه الأمر في المشرق. من أجل ذلك ظهر الوعي هناك، في الأندلس، بالحاجة إلى منهجية في الاجتهاد تقوم لا على "القياس" الذي كرسه الإمام الشافعي، قياس الجديد على "مثال سبق"، قياس جزئيات على جزئيات، بل على منهجية تكون أكثر قدرة على الاستجابة لما يطرحه التطور الحضاري من قضايا جديدة. وكان الشاطبي مؤسس مدرسة المقاصد، هو أبرز مجدد في هذا المجال، مجال منهجية الاجتهاد.
لقد وعى الشاطبي بعمق أن الاجتهاد بالأسلوب القديم، قد استنفد كل إمكاناته وأن "انفتاح" باب الاجتهاد من جديد أصبح يتطلب- حسب عبارته- "تأصيل الأصول"، وذلك باعتماد كليات الشريعة ومقاصدها بدل الاقتصار على تفهم معنى ألفاظ النصوص واستنباط الأحكام منها، أو على قياس حادثة على حادثة في ما لا نص فيه.
وهكذا فإذا نحن قمنا بعملية استقراء كاملة للجزئيات التي وردت فيها أحكام شرعية وصغنا نتائج هذا الاستقراء في كليات عامة فإننا سنحصل حينئذ على قواعد كلية يمكن تطبيقها على أية جزئيات تواجهنا. وبالمثل فإذا انطلقنا من أن مقاصد الشريعة تؤول في نهاية التحليل إلى اعتبار المصلحة العامة وأن النصوص الشرعية ذاتها إنما تهدف إلى رعايتها صارت المصلحة العامة هي المبدأ الذي يجب أن يسود على كل ما عداه. وقد سار بفكرة الشاطبي هذه بعض من تأثروا به إلى حد القول إنه إذا تعارض نص شرعي مع المصلحة العامة عمل بالمصلحة العامة، لأن النص إنما جاء أصلا من أجل رعايتها، مستندين في ذلك على مواقف مشهورة لعمر بن الخطاب وغيره من كبار الصحابة. ومهما يكن فإنه لمما لا جدال فيه أن المصلحة العامة تتلون بلون الظروف والمعطيات الحضارية والتطورات التاريخية، وبالتالي فإن الاجتهاد الذي يعتمدها وينطلق منها سيفقد معناه وجدواه إذا لم يكن اجتهادا متحركا متجددا، إذا لم يكن صادرا عن عقل متحرك ومتجدد.
ومن هنا يبدو واضحا أن المناداة بـ "الاجتهاد" وفتح باب الاجتهاد ستظل كلاما في الهواء ما لم يتم "فتح" العقل الذي تقع عليه مهمة الاجتهاد... ذلك لأن باب الاجتهاد لم يغلق، وإنما انغلق عندما انغلق العقل الذي كان يمارسه، ضمن إطار حضاري وثقافي توقف عن الحركة والنمو. لا بد إذن من انفتاح جديد للعقل العربي الإسلامي كي يستطيع مواجهة الانفتاح الحضاري الذي حصل. وبدون هذا لن يكون هناك اجتهاد في مستوى النوازل المعاصرة.
وانفتاح العقل يبدأ بالانفتاح على الحياة، على المعطيات الجديدة التي تحملها معها والقوانين التي تحكم تطورها. لقد كان الاجتهاد في الماضي تكفي فيه المعرفة بعلوم العربية من لغة ونحو وبلاغة وعلوم الدين من تفسير وحديث وفقه. أما الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فلقد كانت من حيث طبيعتها هي هي، أعني أنها لم تكن تختلف في عصر المجتهد عنها في العصور السابقة له، وبالتالي فـ "المصلحة العامة" كانت، مثلها مثل جزئيات الماضي المعتمدة في القياس، من جنس واحد ومن طبيعة واحدة، وكانت تكفي في معرفتها الخبرة اليومية.
أما اليوم فالأمر يختلف.
إن التغير الهائل الذي أحدثته الحضارة الصناعية في القرون الثلاثة الماضية والذي يحدث اليوم مع "الثورة العلمية" في علوم الفضاء والذرة وعلوم الأحياء وعلم الوراثة، كما في علوم الاقتصاد والاجتماع، وفي إطار العولمة... هذا التغيير الذي لم تشهد البشرية له مثيلا من قبل، يجعل الانفتاح على هذه العلوم، وبكيفية خاصة على أسسها المعرفية ونتائجها على المستوى الإنساني، ضرورة من ضرورات الحصول على الكفاءة التي تمكن من الاجتهاد. إن الحاجة إليها في هذا الشأن لا تقل عن الحاجة إلى علوم اللغة وعلوم الدين! ذلك لأنه بهذا الانفتاح على فكر العصر، وبه وحده، يكون الاجتهاد مواكبا للحياة وتطورها... وما ينقص الغالبية العظمى من علماء الاسلام اليوم هو القدرة على الاجتهاد المواكب للحياة. أما الاجتهاد الذي تخطته الحياة فهو لا ينفع الحاضر. والماضي في غنى عنه.
الحاجة ماسة إذن إلى تدشين "عمر تدوين جديد" في ميدان الاجتهاد، عصر تدوين تكون انطلاقته هي الاجتهاد المواكب، والمواكبة، مواكبة الحياة المعاصرة، هي أولا وقبل كل شيء مسألة منهج... مسألة سلوك عقلي.