مدخل
مسألة
المنهج
من
حفريات في
الذاكرة إلى
المذكرات
السياسية
1-
حاكمية الصدق
في حفريات
الذاكرة
في
"حفريات
الذاكرة"
كانت هناك
ذاكرة وكان هناك
من يقوم
بالحفر فيها.
كان "الحافر"
يعي تماما
طبيعة عمله.
لقد شبه نفسه
بالباحث
المنقب عن
الآثار : يبحث
عما تبقى من قطع
بنيان تلاشى
معظمه، وما
بقي منه غاص
كثير من
أجزائه في
الرمال. كان
على "صاحبنا"
أن يجتهد في
ضم القطع
بعضها إلى
بعض، متجاوزا
كثيرا من
الثغرات،
محاولا
استعادة هيكل
البناء ككل.
ومن خلال هذه
الاستعادة
كان يعطي
للثغرات معنى
ودلالة، ولكن
دون أن يجزم
بأن تلك الدلالات
تسد، مائة في
المائة، تلك
الثغرات التي
ضاعت قطعها
الأصلية.
كان يعي
تماما أنه
يجوز له أن
يخمن ويفترض،
بل ويفسر
ويؤول، شريطة
إشعار القارئ
بذلك. وفي
المقابل لم
يكن له أن
يكذب، حتى ولو
كان الأمر
يتعلق بذلك
النوع المسمى
بـ "الكذب
الأبيض". لقد
كان يعي تماما
أن قيمة هذا
الجنس من
الكتابة
مرهونة
بالكامل
لدرجة الصدق
الذي يلتزم به
الكاتب.
فالحفر في
الذاكرة –وإن
شئت قلت
"السيرة
الذاتية" على العموم-
ليس "مقالا"
من مقالات
الرأي، ولا خطابا
من خطب
و"خطابات"
المساجلة
والحجاج، ولا
دراسة
تحليلية لحال
من الأحوال
الذاتية أو
الموضوعية،
ولا نصا
إبداعيا
ينسجه الخيال،
ولا، ولا… إن
السيرة
الذاتية هي
أولا وأخيرا
شهادة. والشهادة
لا توزن
بمعايير
اليقين ولا
بميزان
النجاح والفشل،
بل توزن
بميزان واحد
هو الصدق.
وعندما يسلم
المرء نفسه
إلى حاكمية
الصدق فليس له
أن يتخيل ولا
أن "يبدع" ولا
أن "يتفنن".
شيء واحد
يُغفر له هو
أن يخطئ عن
غير قصد.
2- مشكلة
الفصل بين
الذات
والموضوع
هذا
النوع من
"الحفر في
الذاكرة"
يطرح مشكلة عويصة:
مشكلة الفصل
بين الذات
والموضوع،
وهما على
مستوى
الذاكرة شيء
واحد. ليست
الذاكرة إلا
ما فيها من
ذكريات،
وليست
الذكريات شيئا
آخر غير نتاج
عملية التذكر
التي هي وظيفة
الذاكرة! إن
التذكر عبارة
عن عملية
استبطان الذات
لنفسها، وفي
هذا الصدد
يقال عادة في
نقد منهج
الاستبطان في
علم النفس إنه
منهج غير علمي
لأنه يفترض أن
يطل المرء من
النافذة ليرى
نفسه يمشي في
الشارع! هذا
في حين أن
الواحد منا لا
يمكن أن يكون
في النافذة
وفي الشارع في
وقت واحد. هذا
يعني أن الذات
لا يمكن أن
تكون موضوعا
لنفسها. وإذا
كان بعض
فلاسفة
القرون الوسطى
المنتسبين
للتقليد
الأرسطي قد
تحدثوا عن
كائن "عاقل
ومعقول" معا،
أي ذات هي موضوع
لنفسها، فهو
عندهم "العقل
الأول"، أي الله.
هو عندهم "عقل
وعاقل
ومعقول"، لا
يحتاج إلى
موضوع يعقله،
فالله
بالتعريف ليس
في حاجة إلى
شيء، هو "غني
عن العالمين".
وإذن فكونه عاقلا
معناه أنه
يعقل ذاته
وأنه في الآن
نفسه "معقول"
لذاته. بعبارة
أخرى هو ذات
وموضوع، أو
بالأحرى لا
فصل فيه بين
الذات
والموضوع، بين
العقل وما
يعقل! أما نحن
البشر فذوات
تعقل موضوعات.
والموضوع هو
"موضوع"،
لأنه وُضع هناك،
لأنه يقع خارج
الذات.
قد
يخفف من حدة
هذا التعارض
بين الموضوع
والذات،
عندما يتعلق
الأمر
بـ"مذكرات"،
كون "الذاكرة"
ليست هي كل
الذات، وإنما
هي "جيوب" في
النفس –حسب
تصور القدماء
أو في الدماغ
حسب التصور
المعاصر- تضم
أشياء تقع
"هناك"، في
زمان مضى،
ولربما في مكان
لم يعد هو
الآخر كما
كان! وإذا كان
هذا صحيحا فمن
الممكن أن
نتصور أنه
يمكن أن ينفصل
"المتذكر" عن
ذاكرته كما
ينفصل المرء
عن جسمه عندما
ينظر في
المرآة. ومع
ذلك تبقى
المشكلة
قائمة من بعض
الوجوه. فما
يرتسم وراء
المرآة هو شيء
واحد: صورة
الجسم
وملامحه. أما
النفس، وأعني
"جيوب
الذاكرة"،
وأحكام
العقل، والقيم
التي تحكم
الرؤية،
وردود الفعل
الخ، فلا تعطيها
المرآة! وعلى
كل حال فلم
نسمع إلا عن
شخص واحد،
اسمه
الحطيئة،
انفصل عن وجهه
في المرآة
انفصالا
جذريا. هذا
إذا كان هذا
الشخص قد وُجد
فعلا، وكان
فعلا هو صاحب
ذلك البيت المشهور
–الذي يهجو
فيه صاحبه
وجهه في
المرآة.
3- الأستاذ
في "حفريات
الذاكرة"
من
أجل تلافي هذه
الشكوك
والصعوبات
التي تطرح
نفسها بصدد
علاقة الذات
بالموضوع،
قررت أن
أستسلم لحاكمية
الصدق منذ
الشروع في
كتابة
"حفريات في
الذاكرة"،
فتكلمت من
موقعي كما
كان، حين كنت
أكتب: أستاذا
جامعيا مارس
التدريس
والكتابة
التحليلية،
ولـه إلمام
بكثير من
المعارف المعاصرة
بما في ذلك
تلك التي
تنتمي إلى
التحليل
النفسي؛ هذا
فضلا عن
انخراطه
الكلي
–تقريبا- في
الذاكرة
الجماعية،
العائلية
والوطنية الخ.
بكلمة واحدة
كنت أتكلم
كذات تعي، ليس
فقط انفصالها
عن موضوعها،
بل أيضا
تعاليها عليه وأستاذيتها
له. ولذلك لم
أنسب ما كتبت
إلى ذلك الجنس
من الكتابة
الذي تواضع
الناس على تسميته
بـ "السيرة
الذاتية"، بل
تركت كامل الحرية
لمن أراد أن
يصنفه داخل
هذا الجنس أو
خارجه! أما
بالنسبة لي
فالاسم الذي
أطلقته عليه
(حفريات في
الذاكرة)،
يكفيني
ويرضيني.
ومع
ذلك فلم يكن
مما يفي بمبدأ
الصدق وفاء
كاملا أن أدعي
التجرد
والحياد في كل
موقف، أو اصطنعه
اصطناعا
فأقمع ما هو
بشري فـيَّ
كإنسان، بل بالعكس
كنت أطلب
"الصدق" في
كثير من
الأحيان من
تقمص هذا
الموقف أو
ذاك، تقمصا
يعيد إليه بطانته
الوجدانية
ويحييه من
جديد، تقريبا
كما عِشتُه
أول مرة؛ بل
ربما استعدته
بوجدانية أعمق،
مما سمح لي في
بعض الأوقات
أو فرض علي
–لست أدري- أن
أعيش بعديا،
وبصورة
تلقائية، حالة
الانفعال
المترتبة عن
بعض المواقف
بأقوى مما
كانت تستطيع
نفس الطفل
"المحكي عنه"
أن تفعل!
وفي
نظري، فهذا
"الانفعال
البعدي" ليس
مما يطعن في
مسألة
الموضوعية في
هذا المقام.
إنها تجربة
يعيشها
الباحث
والمفكر
والشاعر الخ.
إنه من ذلك
النوع الذي
عبر عنه
أرخميدس بصيحته
المعروفة
"أوريكا"
(=وجدتها)!
ومعلوم أنه ما
من طالب هيأ
رسالة جامعية
حول شخص ما
(فيلسوف، أديب
الخ) إلا
وتقوم بينه
وبين ذلك
الشخص صداقة
حميمة حتى ولو
كانت تفصل
بينهما قرون! وحينما
كنت ألاحظ أن
هذا "الحب
للموضوع" لا
ينعكس في
رسالة من
الرسائل التي
قدر لي أن
أشرف عليها
كنت أتساءل
بصورة
تلقائية: هل
فهم هذا
الطالب ما
يفعل وما
يقول؟
لقد سبق
لي أن عبرت عن
هذا النوع من
العلاقة
الحميمية بين
الباحث
وموضوع بحثه
بـ "التذاوت"،
وهي قمة لحظة
الاتصال
بالموضوع التي
يلي لحظة الانفصال
عنه (انظر نحن
والتراث).
على
أن هذا النوع
من "التذاوت" intersubjectivité
مع الموضوع
إنما يكون
ممكنا حينما
يكون الموضوع
من طبيعته أن
لا يتكلم –على
الأقل لا يتكلم
بلسانه كما
الإنسان
يتكلم في
الأحوال العادية،
وقد يتكلم
بعينيه كما هو
شأن المحبين- أو حينما
لا يعود قادرا
على استئناف
الكلام، كما هو
حال من دخلوا
التاريخ
وأصبحوا جزءا
من التراث.
وبالنسبة لي،
وفي "حفريات
في الذاكرة" بالتخصيص،
كان هذا النوع
من "التذاوت"
تجربة ممكنة
لأني نصبت
نفسي، كما
قلت، أستاذا
يتحدث عن طفل،
وعلى لسانه،
قبل أن يتعلم
هذا الطفل
الكلام، قبل
أن تكون له
ذاكرة، أقصد
قبل أن يتقوى
فيه الوعي
بالوعي إلى
الدرجة التي
يغدو معها
قادرا على نقل
هذا الوعي
بالوعي إلى اللغة،
إلى كلام! لقد
استمر كلام
الأستاذ عن
الطفل
وباسمه، كذات
له ثانية، إلى
المرحلة التي لم
يعد فيها من
الممكن
النيابة عنه،
اللحظة التي
أصبح فيها
"راشدا"، وفي
مجال الكلام بالذات.
حينذاك "أدرك
شهرزاد
الصباح فسكتت
عن الكلام
المباح"،
وكان الوعد
بكلام آخر، في
جلسة سمر
أخرى!
4- الاهتمام
بمذكراتي
السياسية
فعلا
وعدت القراء
أن أكتب عن ما-بعد
مرحلة
الشباب. وبما
أنه قد قدر لي
أن أعيش، منذ
بداية هذا
"الما-بعد" في
مجالين أو قل
عالمين، السياسة
والثقافة،
وبصورة
متوازية وإلى
الآن تقريبا،
فقد "تسرعت"
–ربما- في
الإعلان عن عزمي
على أن أقوم
بـ "حفريات"
أخرى، في هذين
المجالين:
مذكرات
سياسية وأخرى
ثقافية. أقول
تسرعت، لا
لأني ندمت، بل
لأن الأصدقاء
والقراء على
العموم
يتصلون
ويلحون
ويسألون : "متى
ستظهر
المذكرات
السياسية"؟
وهكذا كما لا
يخفى نوع من
الضغط مستحب!
هناك
أكثر من
افتراض يمكن
أن أدلي به
كمحاولة لتفسير
هذا الاهتمام
بما سيكون
"مذكراتي السياسية".
هناك من جهة
الظرف
التاريخي
الذي ستحكي
عنه. لقد توقف
الكلام في
"حفريات في
الذاكرة" مع
أواسط
الخمسينات.
وغني عن
البيان القول
إن مرحلة ما
بعد الخمسينات
هي من أدق
المراحل في
تاريخ المغرب
والعالم
العربي
والإسلامي
عموما: مرحلة
الاستقلال
وبنائه،
والممارسة
السياسية
بهذه الصورة
أو تلك من طرف
قطاع أوسع من
الشباب،
ومرحلة "الثورة"
وشعاراتها
الخ. إنها
بكيفية عامة المرحلة
التي كانت وما
زالت تشكل
"عصر السياسة
والإيديولوجيا"
في التاريخ
العربي والإسلامي
المعاصر، من
أقصى الشرق
إلى أقصى
الغرب!
في
هذه المرحلة
التي لم يكتب
عنها إلا
القليل القاصر
برزت أسئلة لم
تجد الجواب
بعد! وقدمت أجوبة
لأسئلة لم
تطرح أصلا،
ربما لأن طرح
السؤال كان
أخطر وأصعب من
تقديم الجواب!
ومعظم شباب
اليوم أجيال
ولدت في زمن
الاستقلال
خلال الأربعين
سنة الأخيرة:
بعضهم يرى ما
يجري ولكن لا
يعرف لكثير
مما يرى بداية
ولا مسارا؟
وبعضهم، بل
قُل كلهم،
يتحمل نتائج
"سياسيات" وتدابير
لا يعرف كيف
اتخذت ولا لأي
شيء سلكت!
في
المغرب على
الخصوص يتوقع
الشباب مني
–وهذا مجرد
تخمين- أن
يقرءوا في
"مذكراتي
السياسية"
شرحا لكثير من
غوامض الحياة
السياسية
والحزبية
التي شهدتها
الخمسون سنة
الماضية والتي
مازالت تفعل
فعلها في
حاضرهم!
وسيكون من بين
القراء، بدون
شك، من
ينتظرون أن
يمتحنوا صدقي
وإخلاصي
للحقيقة فيما
سأكتب! ومن
حقهم ذلك.
5- "القرب"
يطرح مشكلة
منهجية
جميع
هذه
الافتراضات،
مشروعة
ومبررة، وغيرها
كثير. وأنا
أفهمها
وأتفهَّمها
لأني أعلم أن
القراء، إذا
كانوا قد
قبلوا مني
عبارة "من
بعيد!"، التي
وضعتها تحت
عنوان
"حفريات في
الذاكرة"،
فهم لن
يقبلوها مني
فيما قد يكون
"مذكراتي
السياسية"،
بل لعلهم
يتوقعون
عكسها : "من قريب!".
والحق
أن "القرب"
وليس "البعد"
هو الذي جعلني
أطرح مشكلة
الاتصال
والانفصال،
والذات والموضوع،
في مستهل هذا
المدخل. إن
المسألة المنهجية
التي تواجهني
هنا هي كيفية
التخلص من
مفعول هذا
"القرب". لقد
تحدثت في
"حفريات في
الذاكرة" عن "صاحبنا"،
موظِّفا ضمير
الغائب، وما
أدراك ما ضمير
الغائب! فهل
سأواصل
توظيفه
واستمر في
الحديث عن
"صاحبنا"،
ذاك؟
أشعر
أن طبيعة
التجربة
السياسية
التي خضتها،
أو بالأحرى
التي كنت شاهدا
عليها، لا
تسمح لي بذلك
وإلا فسيكون
علي أن أحول
"المذكرات"
إلى قصة أو
رواية، وفي
هذه الحالة
سأصطنع
الابتعاد عن
"القرب"
اصطناعا –قد
تكون فيه متعة
أدبية إذا
وفقت إلى
إتقان الحرفة-
ولكن ذلك
سيكون على
حساب ما يطلبه
القراء
وينتظرونه
مني، أعني "الكشف
عن الحقيقة".
والحق أني
أشعر أن ما هو
مطلوب مني ليس
هو "الكذب
الأدبي" بل
"الصدق
السياسي"!
ولكن
هل يمكن ادعاء
"الصدق
السياسي"
أصلا؟ وإذا
كان ذلك غير
ممكن –إلا
بقدر كبير من
النسبية- في
الفاعل
السياسي حين
ممارسته
الفعل، فهل
يمكن القول
بإمكانيته
الكاملة أو شبه
الكاملة
بالنسبة لمن
يتذكر أو
يتأمل فعله
السياسي؟
لو
كان ذلك ممكنا
لكانت مهمة
المؤرخ يكفي
فيها ذكر
الروايات.هذا
في حين أن
مشكلة المؤرخ
هي أنه يتعامل
مع روايات
خالية في
الأعم الأغلب من
"الصدق
السياسي"، أو
أن عليه أن
يفترض فيها
أنها مبدئيا
كذلك! وإذا
كان هناك من
درس تاريخي
تعلمته من
تجربتي
السياسية فهو
ما عبرت عنه
مرارا لطلبتي
في موضوع "الحقيقة
التاريخية".
لقد قلت لهم
مرارا إني أرثي
لحال المؤرخ!
هو يطلب
الحقيقة
التاريخية من "الوثائق"!
لكن لنتخيل أن
مؤرخا
سيحاول، بعد خمسين
سنة أو أكثر،
التأريخ
لحالنا اليوم من
خلال الوثائق
التي سيحصل
عليها، وهي
كثيرة : وثائق
رسمية، صحف،
منشورات
حزبية،
شهادات أشخاص
الخ، فهل سيصل
إلى "حقيقة ما
جرى ويجري"!
إنه مهما
اجتهد وانتقد
وغربل وصفى
فالغالب أن
تحليلاته قد
لا تختلف
كثيرا عن
"شهادات" الأشخاص
الذين شاهدوا
حادثة سير
مثلا! كل منهم
يحكي بـ"صدق"
ما شاهد، ولكن
شهاداتهم "الصادقة"
تختلف فيما
بينها إلى
الدرجة التي لا
يملك المرء
معها إلا أن
يتساءل : هل
الصدق واحد أو
متعدد؟
أما إذا
كانوا
يشاهدون تمثيلية
أساسُها
وقائع وهمية
فإن شهاداتهم
لن تختلف
كثيرا عن
تدخلات أولئك
"المحللين" الذي
يجلسون على
طاولة
مستديرة،
أمام كاميرا
التليفزيون
أو ميكروفون
الإذاعة،
مساء يوم
إجراء الانتخابات،
من نوع تلك
التي ألفناها
في المغرب،
يتلقون "أولا
بأول" نتائج
التصويت من "الداخلية"،
ومن ثمة
يخوضون في
مناقشات
وتحليلات
الهدف منها
استخلاص
النتائج من
الأرقام التي
تقدم لهم
لفائدة هذا
المرشح أو
ذلك، هذا
الحزب أو ذاك!
إنهم يحللون
أرقاما… نعم!
ولكن المشكل ليس
مشكل مدى
مصادفتهم
الصواب في
تحليلاتهم وتوقعاتهم،
بل المشكل
مشكل صحة تلك
الأرقام!
ومن
حسن حظ
الحقيقة
التاريخية أن
المؤرخ لا يهتم
كثيرا بهذا
النوع من
"المداخلات
والمخارجات"
فهو يحكم
حاسته
النقدية في كل
شيء. إن المؤرخ
يميز بين
"الأحداث
التاريخية"
وبين الأفعال
والأقوال
اللاتاريخية.
هو يطلب الحقيقة
التاريخية
فيما هو عام
وعلى درجة
كبيرة من
الاستقلال عن
الأشخاص،
فاعلين كانوا
أو رواة.
والصدق
التاريخي
عنده يوزن ليس
فقط بما يتحلى
به الراوي أو
الوثيقة من
الصدق، بل
أيضا –وربما
كان هذا هو
المهم عنده-
بدرجة انسجام
ما يُحكى عن
الحدث مع ما
قبله وما
بعده. إن "الحدث
التاريخي" هو
–بالنسبة
للمؤرخ- ما
يجد مكانه في
"التاريخ"
الذي يبنيه
هو. ومن هنا
أهمية التمييز
بين "التاريخ
الواقعي"، أي
مجموعة
الأحداث
التاريخية
التي حدثت في
الزمان
والمكان
وتشكل
الصيرورة
التاريخية
الفعلية،
وبين
"التاريخ
المعرفي" أي
مجموعة الأحداث
التي يشيِّد
بها المؤرخ
تصوره
للصيرورة
التاريخية.
والمشكلة
هنا، كما في
الحقول العلمية
الأخرى، هي
تلك التي تصاغ
كما يلي: ما مدى
مطابقة
المعرفي
للموجود؟
هذه
مشكلة عامة،
وليس من
مشاغلي هنا
مناقشتها.
فأنا أعي
تماما أنني
لست مؤرخا
بالمعنى المشار
إليه، أعني
المعنى
العلمي. وأعي
كذلك أني لست
كاتب "قصص
تاريخي" من
النوع الذي
يسميه الفرنسيون petite
histoire La
أي الحكايات
التي تتعلق
بتصرفات
الأشخاص أو
بحوادث
اجتماعية
معينة والتي يركز
فيها على
الجزئيات من
تصرفات
الفاعلين،
مما يدخل في
إطار الأمور
"الشخصية"
الحميمية!
وأعي أيضا
أنني لست ممن
يحلل
"الأرقام" التي
يعرف المحلل
سلفا أنها
مزيفة.
6- الذاكرة
الشخصية
والذاكرة
الوطنية
من
حسن حظي إذن
أنني هنا لست
لا من هذا
النوع ولا من
ذاك: إن موضوعي
ليس تمثيلية
ولا أرقاما
مزيفة ولا سير
أشخاص. موضوعي
عبارة عن
تجربة خضتها
بصدق. وأعني بالصدق
هنا أنني كنت
–ولازلت-
مخلصا
للأهداف التي
كانت من أجلها
تلك التجربة.
ذلك لأنه سواء
تعلق الأمر
بما قمت به من
أعمال أو بما
كتبت من نصوص
أو أبديت من
آراء، داخل
هذه التجربة
ومن أجلها،
فإنه لم يحدث
قط أن صدر مني،
فعلا أو
كتابة، إلا ما
كنت أعتقد في
صوابه أو في
كونه يخدم
الأهداف
النبيلة التي
كانت تنشد
إليها تلك
التجربة
السياسية. هنا
يمكن أن أدعي
الصدق مائة في
المائة. قد
أكون أخطأت
–وإلى الآن
أعتقد أنني لم
أخطئ قط بمعنى
أن ما قمت به
شخصيا هو ما
كان يجب علي
أن أقوم به- ولكن
الخطأ إن كان
قد حصل فهو لم
يكن يقع خارج التجربة
بل كان جزءا
منها،
وبالتالي كان
يستجيب
لمعيار الصدق
والصواب حين
وقوعه.
على
أنه إذا كان
لي أن أدعي
الصدق –أو قل هذا
النوع من
الصدق- فيما
سأثبته هنا
فهل يمكنني أن
أدعي أنني
سأتغلب على
النسيان من
جهة وعلى
"الرقابة
الذاتية" من
جهة أخرى؟
أما
النسيان
فأحسب أني
سأتغلب عليه
–إلى حد كبير-
لأن مرجعيتي
لن تكون
ذاكرتي
الشخصية وحدها
بل سأعتمد
أيضا على
ذاكرة
التجربة التي
سأتحدث عنها
وهي ذاكرة
حية، قوامها
نصوص مكتوبة
(مقالات،
بيانات
تصريحات الخ)،
وكثير منها
كتبته بقلمي،
لا بل بعقلي
ووجداني
وأعصابي. هذا
يعني أن
قراءتي لها لن
تكون كقراءة
المؤرخ الذي
يضطر إلى
التأويل
والتفسير
والربط بين
الأشياء الخ،
بناء على
النظرة
العامة التي
توجهه وتحكم
رؤيته وفهمه،
وهي تقع خارج
التاريخ الواقعي
لأنها تريد أن
تصنع التاريخ
المعرفي، وهما
"تاريخان"
يندر، إن لم
يكن يستحيل،
أن يتطابق
الواحد منهما
مع الآخر
تطابقا يرفع
الشك تماما عن
"الحقيقة
التاريخية"!
إن قراءتي لنصوص
التجربة التي
سأتحدث عنها
ستكون قراءة تتميز
بـ"القرب"
منها، قربا لا
يتأتى لغير
كاتبها
المنخرط في
التجربة التي
تتحدث عنها.
فأنا عندما
سأقرأ اليوم
افتتاحية أو
تعليقا أو خبرا
نشرته جريدة
"التحرير"
قبل اثنين
وأربعين عاما
مثلا (سنة 1959)
فسأقرأ فيه
ليس فقط ما
تفيده
الكلمات، بل
سأقرأ فيه
مناسبته
ومضمونه
الظاهر
والخفي،
وأيضا
المخاطب فيه
المسكوت عنه
الخ. بكلمة
واحدة سأقرأه
بكامل المعطيات
التي أطرته
ساعة كتابته.
وبما أنني
ساهمت بصورة
واسعة في
كتابة مثل هذه
النصوص، أو
على الأقل
مناقشة
مضمونها قبل
تحريرها
بقلمي أو قلم
زميل من
زملائي، فإني
لن أحتاج هنا
إلى البحث في
"ما بين
السطور"،
فذاكرتي
تحتفظ به كما
هو في أصله،
أو على الأقل
تستعيده
أثناء قراءتي
الآن لتلك
النصوص. لن
أحتاج هنا إلى
التأويل لأن
الإنسان يؤول
"ظاهرا" لا
يعرف "باطنه"،
أما إذا كان
يعرف الباطن
والظاهر معا
فالتأويل
يصبح لديه غير
ذي موضوع.
ذلك
ما يجعلني
أدعي "الصدق"
في ما سأنقله
أو أشرحه.
والمقصود
بالصدق هنا هو
مطابقة ما
أقوله اليوم
لما قلته
بالأمس. وإذا
نجحت في ذلك
فإن دائرة النسيان
ستضيق إلى
أقصى حد.
وكلما ضاقت
دائرة النسيان
في هذا المجال
تقلص دور تدخل
الذات في صنع
التاريخ
كمعرفة. إن
التاريخ
كواقع والتاريخ
كمعرفة
يكونان حينئذ
أقرب إلى المطابقة،
الشيء الذي
يعني أن شهادة
الشاهد صادقة.
إن هذا لا
يعني قط أن
هذه الشهادة
هي وحدها التاريخ
كما كان،
ولكنها ستكون
أكثر مصداقية من
شهادات أخرى
لا يتوفر لها
مثل هذا
"القرب". وغني
عن البيان
القول إنه
كلما تعددت
الشهادات
التي من هذا
النوع صار
الاقتراب من
الحقيقة أكبر
وأقوى.
نعم،
أنا لم أعش
جميع الأحداث
والمراحل
التي سأتحدث
عنها بمثل هذا
"القرب" الذي
عشت به الأحداث
التي تلت
انخراطي في
الحياة
السياسية كشاهد
وفاعل سنة 1959. ثم
إنني لم أعش
جميع الأحداث
التي عرفتها
مرحلة بل
مراحل ما قبل 1959.
ومع ذلك فهذا
لا يقلقني.
ذلك أني لن
أتحدث هنا إلا
عن ما عشته
وعرفته بصورة مباشرة
منذ سنة 1959، أو
بصورة غير
مباشرة قبل هذا
التاريخ. إن
هذا يعني أنني
سأستند إلى
تجربتي
(ذاكرتي)
الشخصية فيما
يتعلق بما بعد
1959 وإلى الذاكرة
الوطنية فيما
يتعلق بما قبل
هذا التاريخ.
ولا بد من
التنبيه هنا
إلى أن
الذاكرة
الوطنية التي
سأستند إليها
فيما يتعلق
بما قبل 1959 هي
أيضا، بمعنى
ما من المعاني،
جزء لا يتجزأ
من ذاكرتي
الشخصية. ذلك
لأن الفهم
الذي تكون لدي
عن ما قبل سنة 1959
لم أحصل عليه
مرة واحدة من
هذا المصدر أو
ذاك، بل حصلت
عليه بشكل
تراكمي طيلة
تجربتي
السياسية
وإلى اليوم.
لقد عرفت
تاريخ الحركة
الوطنية في
المغرب ليس
فقط من خلال
"نشرة الحزب"،
حزب
الاستقلال،
وكتابات علال
الفاسي
وغيره، بل
عرفته أيضا من
خلال تجربتي
"السياسية"
ابتداء من 1952،
حينما كنت من
شباب هذا
الحزب أعيش
داخل الأحداث
وبالتالي
أراها بالمنظار
الوطني. وعرفت
تاريخ الحركة
الوطنية كذلك
من خلال
نتائجها،
فجميع ما جرى
منذ 1959 ويجري
إلى الآن، هو
نتيجة أو ثمار
لما غرس من قبل.
ويمتد هذا الـ
"قبل" إلى مثل
هذا الوقت من
القرن
الماضي،
القرن
العشرين. إن
ما نعيشه
اليوم مما هو
سيئ أو جيد في
حياتنا
الوطنية لا
يفهم –على
الأقل في
نظري- إلا
بالنظر إليه ضمن
سلسلة من
الأحداث تغطي
الآن قرنا
بكامله : مائة
من السنين.
لقد
عشت إذن مائة
سنة على صعيد
الذاكرة
الوطنية.
عشتها
كمتلقٍّ ثم
كممارس ثم
كفاعل، وعشتها
أيضا كباحث
وكاتب ومتذكر.
وإذن فمشكلة
النسيان في
هذا المجال –مجال
الذاكرة
الشخصية
الملتحمة
بالذاكرة الجماعية
الوطنية- غير
مطروحة
بالشكل الذي
يكون له تأثير
ملموس على
تذكر الأحداث
وسياقها.
هل
نجحنا في
استبعاد
"النسيان"
بوصفه عاملا
قد ينال من
حاكمية الصدق
في هذه المذكرات؟
أعتقد ذلك.
وإذن فلننتقل
إلى مسألة
الرقابة الذاتية.
7- مسألة
الرقابة
الذاتية
تطرح
"حاكمية
الصدق" مشكل
"الرقابة
الذاتية"،
خصوصا عندما
يتعلق الأمر
بالأشخاص،
الأحياء منهم
والأموات؟
لقد شكك بعض
النقاد من الفلاسفة
في مصداقية
المعرفة
التاريخية
بدعوى أن
الحدث التاريخي
هو فعل
إنساني،
وبالتالي
فنحن لا
نستطيع أن
نكتسب معرفة
حقيقية به إلا
إذا عرفنا
مواقف الفاعلين
لذلك الحدث :
دوافعهم
ونواياهم (كولنجوود)!
هذا المطلب
معقول –كمطلب-
عندما تكون إمكانية
تحققه من قبيل
المستحيل، أي
عندما يتعلق
الأمر بأشخاص
ماتوا ولا
نعرف عنهم إلا
ما قالوه عن
أنفسهم أو قيل
عنهم، ضدهم أو
بالنيابة
عنهم، مثل
هارون الرشيد
أو نابليون مثلا!
أما عندما
يتعلق الأمر
بأشخاص عشتَ
بجوارهم
وشاركتَهم في
التجربة
وعرفت نقط
ضعفهم ونقط
قوتهم
والحزازات
الخفية التي
تحرك نفوس بعضهم
والأهداف
الدفينة
والطموحات
الشخصية التي
حركتهم نحو
هذا العمل أو
ذاك، عندما
يتعلق الأمر
بأشخاص تعرف
عنهم بعض هذه
الدوافع، أو يخيل
إليك أنك
تعرفها فيهم،
فالأمر يختلف:
ذلك أنه إذا
كان من حق
الفلسفة
النقدية أن
تطعن في
المعرفة
التاريخية،
لكون المؤرخ
يجهل دوافع
الأشخاص
ونواياهم
الخ، فإن من
حق المؤرخ أن
يرد قائلا:
كلا، إن
المعرفة
بدوافع
الفاعلين
السياسيين
ونواياهم، وليس
الجهل بها،
هي التي تشكل
عائقا أمام
بناء الحقيقة
التاريخية!
ذلك، لأن جهل
المؤرخ
بالأشخاص
وبـ"دوافعهم ونواياهم"
يمنحه حرية
الاجتهاد في
التفسير والفهم
والتأويل،
يجعله يتوخى
الموضوعية فيطلب
للتصرفات
والأحداث
أسبابا
ودوافع "خارج الذات"
التي قامت
بها، وهذا ما
يجعل عمله كمؤرخ
أمرا ممكنا.
أما "العارف"
بهذا الذي
يجهله المؤرخ
فهو لا يملك
أن يجتهد ولا
أن يؤول. كل ما
في إمكانه هو
أن "يصرح" أو لا
يصرح! فإذا
صرح فسيبدو
وكأنه يتخذ
موقف الخصم أو
المناصر –لا
فرق، وفي هذه
الحالة لا
يضمن أن تكون
شهادته بمنآى
عن الطعن! أما
إذا لم يصرح
فهو أول من
يطعن بينه
وبين نفسه – في
شهادته. ولاشك
أن الذين
يعلمون أو
يتخيلون أنه
"يعرف"
سيحكمون عليه
بكونه كان
مقصرا أو … أو…
ولكن هل
الإنسان يعيش
وحده؟ ألا
يترتب عن
الصدق أحيانا
إضرار
بالآخرين : مس
بمصداقيتهم
أو كرامتهم
أو… أو… ؟ أليس
من الضروري أن
يراعي كاتب المذكرات
السياسية
مبدأ "ممارسة
السياسة بأخلاق"،
باعتبار أن
هذا النوع من
الكتابة لا يمكن
أن يخلو هو
نفسه من
"ممارسة
السياسة"؟
كيف
الخروج إذن من
هذا المأزق؟
أعتقد
أن الذي سيفصل
في هذه
المسألة هو
تحديد الغاية
من هذه
المذكرات. إن
الغاية منها
ليست تصفية
حساب مع أحد.
فليس لي من
الحسابات مع
رفاق الأمس
واليوم ما
يقتضي مثل هذه
التصفية،
التي يمكن وصفها
بـ "القاتلة".
لقد حركني إلى
كتابة هذه المذكرات،
عندما أعلنت
عن النية في
كتابتها قبل
بضع سنين،
الرغبة في
المساهمة في
كتابة تاريخ
العمل الوطني
والنضال
التحرري
الديموقراطي
في هذا الوطن،
خصوصا عندما
لاحظت حاجة
الجيل الصاعد
إلى معرفة
تفاصيل عن
المسار التاريخي
الحديث الذي
خرج من جوفه
الحاضر الذي
يعيشونه
والذي سيبقى
يؤثر في
مستقبلهم لفترة
غير قصيرة من
الزمن. ولقد
كان من الجائز
أن أرجئ تنفيذ
مشروع هذه
المذكرات
شهورا أو
سنوات أخرى
لولا شعوري
بأن الواجب
يفرض كتابتها
الآن: لقد
كثرت
الكتابات
التي تنشر في
الصحف على شكل
ذكريات أو
حوارات حول
تجارب بعض
المناضلين،
في السجون
والمعتقلات
وفي العمل
السياسي أيضا.
وهذه ظاهرة
صحية بالغة
الأهمية. وإذا
كانت التجربة
الشخصية ملك
لصاحبها لا
يجوز "الاختلاف"
معه فيها، فإن
ما يرد عند
حكايتها من
استطرادات
تتعلق
بالمسار
العام
للجماعة أو
للمجتمع
والدولة ككل،
تعكس ليس
التجربة الشخصية
ذاتها بل ما
لصاحبها من
"المعرفة" بهذا
الجانب أو ذاك
من التجربة
العامة. هنا
بطبيعة الحال
يكون
الاختلاف. وقد
وجدت نفسي
أختلف فعلا مع
بعض ما قرأت
لكونه لا يمثل
"الحقيقة" من
وجهة نظري
وزاوية
معرفتي. من
أجل ذلك رأيت
أنه قد يكون
من المناسب
الإدلاء
بوجهة نظري التي
قد تكون
مخالفة لبعض
وجهات النظر
أو أجزاء منها
دون أن أدعي
أن ما عندي هو
الحقيقة
الخالصة
الصافية. كل
أملي هو أن
أساهم في خدمة
الحقيقة.
ولكن
ما هي
"الحقيقة" في
هذا المجال؟
أعتقد
أنه مهما
فعلنا فلن
نبلغ حقيقة ما
فعلنا أو ما
حدث! من أجل
ذلك فأنا أقنع
هنا بالقول: إن
الحقيقة في
هذا المجال
–من وجهة نظري-
هي ما ينفع في
اكتساب رؤية
صحية سليمة
للشأن
المستقبلي.
وإذن، فكل ما
يتبين لي في
ماضينا
الحزبي
والوطني أن من
شأنه أن يساعد
على مثل هذه
الرؤية، فهو
"الحقيقة"
التي يجب الصدع
بها. أما ما لا
أتبين فيه
الآن على الأقل
مثل هذه
الوظيفة فإن
السكوت عنه
–سكوتا إراديا
أو لا إراديا-
سيفرض نفسه.
وسيكون حالي
حال من ينشد:
فكان ما
كان مما لست
أذكره * فظن
خيرا ولا تسأل
عن الخبر.
موقف
براغماتي
نفعي! ليكن،
ولكنه موقف
وطني، قبل كل
شيء.
قد
يعترض معترض
ويقول: لماذا
الالتجاء إلى
"الوطنية" في
قضية تتعلق بـ
"الحقيقة"؟
سؤال
لن أبحث له عن
جواب نظري،
سياسي أو
فلسفي. إن
جوابه يقع
عندي في أعماق
التجربة
ذاتها، أقصد
تجربتي
السياسية، لا
بل يقع فيما
يؤسس تاريخيا
وذاتيا هذه
التجربة في
نفسي وفي نفوس
أبناء جيلي
الذين قدر لهم
أن يكونوا في
صفوف الحركة
الوطنية أيام
الحماية
الفرنسية. ومع
أني لم أكن
أميز بوضوح
بين الوطنية
والسياسة، في
أوائل مرحلة
الشباب،
مرحلة
العمل
الوطني
العفوي،سواء
في إطار
الحياة اليومية
مع الأسرة أو
في المدرسة مع
من هم في مثل سني
من الأطفال
والمراهقين،
فإن المصادفة
التاريخية قد
قرنت بين
بلوغي سن
الرشد (18 سنة)
وبين الأزمة
السياسية
والوطنية
التي انتهت
بعزل محمد
الخامس ونفيه
إلى مدغشقر،
عام 1953. إنه في خضم
تلك الأزمة
ومن خلال
معطياتها
ترسخ في ذهني ووجداني
الميل إلى
التمييز بين
"السياسة" و"الوطنية.
والقصة كانت
كما يلي:
8- الحقيقة
السياسية
والموقف
الوطني
كنت
سنة 1953 في الدار
البيضاء
تلميذا في
الثانية
إعدادي. وكان
الوقت وقت
عطلة صيف.
وكنت كجميع
المغاربة، صغارا
وكبارا،
أتتبع الأزمة
السياسية
التي كان
المغرب
يعيشها في ذلك
الوقت، وكانت
قد بلغت أوجها
في شهر غشت
عندما تبين
للجميع أن سلطات
الحماية
الفرنسية
عازمة على خلع
محمد الخامس،
الملك
الوطني،
وتنصيب آخر
مكانه يكون تابعا
لهم مقطوع
الصلة
بالحركة
الوطنية. كانت
القضية قضية
كل مغربي، أو
على الأقل كل
مغربي وطني.
ليس
هاهنا مكان
الحديث عن
الحالة النفسية
التي كنا
نعيشها، نحن
تلامذة
المدارس الوطنية،
في ذلك الوقت.
لذلك سأختصر
وأقول: كنت
جالسا ذات
مساء مع أفراد
من عائلتي في
"بيت الجلوس"
نستمع في
الثامنة مساء
إلى إذاعة لندن.
وأذكر أن
المذيع استهل
نشرة الأخبار
بتصريح لوزير
خارجية فرنسا
آنذاك، "جورج
بيدو"، أكد
فيه بعبارات
لا تقبل الشك
ولا التأويل
أن فرنسا "لا
تنوي عزل محمد
الخامس". لا
أستطيع أن أصف
الآن كم كان
شعوري
بالارتياح
والفرح والاعتزاز
عظيما يفوق
الحد. إنها
إذاعة لندن،
التي تعودنا
منها كثيرا من
الحياد
لفائدة القضية
المغربية، هي
التي تنقل ذلك
التصريح الواضح
عن وزير
خارجية
فرنسا، الذي
يرجع إليه الاختصاص
بقضية المغرب!
لم يداخلني
الشك مطلقا،
في أن محمد
الخامس لن
يعزل بل سيبقى
ملكا للمغرب،
كما كان!
لكن
لم يمر سوى
يومين حتى عزل
محمد الخامس
ونفي. وكان
جورج بيدو
نفسه هو الذي
"فعلها".
لقد
ترسخ في ذهني
منذ ذلك الوقت
أن التباين بين
الأقوال
والأفعال لدى
المسئولين
السياسيين قد
يتسع إلى درجة
الكذب. ومع
ذلك فإن هذا
الكذب
السياسي
الصراح لم يزعزع
في نفسي الثقة
بالسياسة
جملة
وتفصيلا، وذلك
لسبب بسيط
وأساسي، هو أن
"السياسة"
كما كانت
حاضرة في مجال
المفكر فيه
عندي ولدى
أبناء جيلي من
الشباب
الوطني كانت
تعني ابتداء : العمل
الوطني. كان
الاشتغال
بالسياسية،
من منظور أفق
تفكيرنا،
معناه
الانخراط في
صفوف الحركة
الوطنية،
الشيء الذي
يعني النضال
ضد المستعمر.
وبهذا المعنى
كانت سلطات
الحماية الفرنسية
بالمغرب توظف
لفظ
"السياسية"
عندما تعتقل
الناس
وتحاكمهم أو
تنفيهم عن
بلدتهم أو
مدينتهم! لقد
كانت التهمة
في الغالب هي
"الاشتغال
بالسياسة"،
وهي عبارة
مكافئة
لعبارة : الانخراط
في العمل
الوطني ضد
الحماية
الفرنسية.
أستطيع
أن أدعي بصدق
أن هذا
المعنى، الذي
يجعل
"الاشتغال
بالسياسة"
مرادفا للعمل
الوطني، هو
الذي بقي يحكم
سلوكي
السياسي إلى
اليوم. لقد
حدث هذا
الامتزاج بين
السياسة
والوطنية في
نفسي منذ
طفولتي
الأولى، منذ
أن نقلني والدي
من "ليكول"
(المدرسة
الفرنسية) إلى
المدرسة
الوطنية
الحرة، مدرسة
النهضة
المحمدية بفجيج
مسقط رأسي،
تلميذا في
الثامنة من
عمري. كان
الالتحاق
بهذه
المدرسة،
تلميذا أو
مدرسا، يعني
بصورة آلية
الانخراط في
حزب
الاستقلال.
ولم يكن معنى
"الحزب"
واضحا في
أذهاننا، بل كان
هو والعمل
الوطني شيئا
واحدا. فالشخص
كان يوصف بأنه
"حزبي"، لا
بمعنى أنه
متحزب لجماعة وطنية
ضد أخرى، بل
بمعنى أنه
منخرط في
العمل الوطني
من أجل
الاستقلال.
لقد خلف هذا
الانتقال من
"الليكول"
إلى المدرسة
في نفسي أثرا
عميقا، وغدا
يتحكم بصورة
تلقائية
عفوية في توجيه
نظرتي إلى
الأمور. لقد
بدأت أشعر
بهذا الأثر في
وقت مبكر،
فرضيت به
وأقررته –أو
هو فرض نفسه
علي-لا فرق-
كاختيار لا
أحيد عنه.
لقد
وعيت في وقت
مبكر،
الأبعاد
العميقة لهذا التحول.
لقد كنا في
"الليكول"
ندرس –الفرنسية
طبعا- في كتاب
للقراءة أو
"التلاوة"
(ليكتور) يحمل
عنوان "لو
ليوني" نسبة
إلى مدينة
ليون بفرنسا،
-وأنا لا أذكر
بالضبط هل كان
هذا هو اسم
الكتاب أم أنه
اسم مؤلفه.
كانت نصوص هذا
الكتاب تدور
كلها حول
فرنسا
وثقافتها
وتاريخها. ولا
زلت أتذكر
بوضوح أن من
بين هذه النصوص
واحدا كان
بعنوان:
"أجدادنا
الغاليوين"،
ويتحدث عن
"وطننا بلاد
الغال"،
والمقصود
فرنسا
الحالية،
ونصا آخر كنا
نحفظه عن ظهر
قلب، ولم أعد
أذكر هل كان
نثرا أم شعرا،
كان كله إشادة
وافتخار
بأمجاد فرنسا
(كان ذلك في
أوائل
الأربعينات
من القرن
العشرين فكان
الكتاب يعكس
جو الحرب
العالمية
الثانية).
أما
عندما انتقلت
إلى "مدرسة
النهضة المحمدية"
(نسبة إلى
الملك محمد بن
يوسف)، فقد كان
أول شيء نفعله
قبل الدخول
إلى حجرات
الدرس، صباحا
وبعد الظهر،
هو الوقوف
صفوفا متراصة،
متجهين نحو
باب المدرسة،
نقرأ
النشيدين الوطنيين
الشهيرين
(آنذاك، أما
اليوم فالله
أعلم!)، نشيد:
"مغربنا
وطننا روحي
فداه…"، ونشيد:
"من جبالنا
طلع صوت
الأحرار
ينادينا
للاستقلال..."،
وأناشيد أخرى.
أما كتاب
"التلاوة"
فقد كان
بعنوان "القراءة
المصورة"،
وهو كتاب
لبناني، ذو
نزوع وطني
(وربما ألف
هناك ليكون
بديلا عن الكتاب
الفرنسي،
فلبنان كان
تحت الحكم
الفرنسي أيضا).
هذا
الامتزاج بل
الاندماج بين
الوطنية والسياسة
في وعيي هو ما
يفسر –في نظري
على الأقل- جوانب
كثيرة من
سلوكي الحزبي
ومواقفي
السياسية.
وبدون تواضع
زائف أستطيع
أن أؤكد أنني
أقبل من نفسي
الخطأ وجميع
أنواع الضعف البشري
في الميدان
السياسي
وغيره،
ولكنني لا أتصور
أني أستطيع أن
أسلك أي سلوك
انتهازي كيفما
كان. وحتى ما
يعبر عنه
بـ"انتهاز
الفرص"، وهو
شيء وارد في
مجال
السياسية
ومقبول في نظر
الكثيرين،
فهو عندي شيء
مستبعد تماما.
وهذا موقف من
ذات نفسي لا
أجد له تفسيرا
إلا في ذلك
المعيار
المتحكم في
سلوكي
السياسي والحزبي
والذي تحدث
عنه قبل: عدم
الفصل بين
الوطنية
والسياسة.
وبطبيعة
الحال فليس
هذا المعيار
ولا هذا السلوك
مما يخصني
وحدي. لا، بل
إن كثيرا من
أبناء جيلي
والجيل
السابق
واللاحق هم من
هذا النوع. وكثير
منهم جنود
مجهولون. وأغلبهم
لم تتح له
فرصة التدرج
في الحياة
السياسية
والوطنية
والثقافية
بنفس المقدار
الذي قدر لي
أن حظيت به.
9- تحكيم
الموقف
الوطني في
الموقف
السياسي
ومهما
كانت العوامل
والأسباب
التي جعلت وضعيتي
تختلف عن
وضعية هؤلاء
الذين لم تتح
لهم نفس
الفرصة التي
أتيحت لي في المجالين
الثقافي
والسياسي
–وأنا أعزو
هذا إلى
المصادفة لا
غير- فإن هذا
السلوك الذي
تحدثت عنه
والذي تخضع
السياسة فيه
للوطنية هو
الذي كان –حسب
تقديري- وراء
ذلك "القرب"
الذي شكوت منه
أعلاه والذي
يمنعني من
توظيف عبارة
"من بعيد" في
مذكراتي
السياسية كما
فعلت في "حفريات
الذاكرة".
وكما سبق أن
قلت فهو "قرب"
يحرج "الصدق"
في ذات نفسي!
وبمعنى آخر هو
"قرب" تتعرض
فيه السياسة
في ذات نفسي
دوما للإحراج من
جانب الموقف
الوطني.
فعلا،
لقد بقي
الموقف
الوطني يحرج
السياسة في
ذات نفسي،
وبالتالي
يحكمها
ويوجهها. وقد
بقي هذا الوضع
ملازما لي إلى
اليوم. وقد
يكون من قبيل
استباق الخطى
الإتيان هنا
بأمثلة. ومع
ذلك فلا أرى
مانعا من
الإشارة إلى
مواقف ثلاثة
كمجرد أمثلة:
-
محاكمة أعضاء
من المكتب
السياسي
لا
شك أن كثيرا
من القراء
المتابعين
لما أكتب يتذكرن
أنني كتبت
مقالا في
جريدة
الاتحاد الاشتراكي
بتاريخ 9 غشت 1991
بعنوان : "منكر
سياسي يجب
تغييره بالرجوع
إلى الموقف
الوطني" وذلك
بصدد قضية الصحراء
المغربية.
والمقصود
بـ"المنكر
السياسي" هو
الحل الذي
اختارته
الأمم
المتحدة وهو
"الاستفتاء"،
أما الموقف
الوطني
فالمقصود به
في سياق
المقال هو
"البيعة"
التي أكدت
فتوى محكمة
لاهاي وجودها
التاريخي بين
قبائل
الصحراء وملك
المغرب. كان
هذا المقال
مكتوبا بلغة
رصينة([i][1])، ولكن لم
يكن ليخفى على
المكلفين بـ
"قراءة" نصوص
من هذا النوع
وتقديم
تقارير
بشأنها لـ "من
يهمهم الأمر"
أن المقال
يستعيد
بطريقة "أخرى"
موقف الاتحاد
الرافض لقبول
الاستفتاء،
وهو الموقف
الذي اعتقل بسببه
المرحوم عبد
الرحيم
بوعبيد
وأعضاء من المكتب
السياسي كما
هو معروف. لقد
كان المقال بتوقيته
ومضمونه
موجها مباشرة
للمرحوم الحسن
الثاني. فمن
حيث التاريخ
قصدت نشره يوم
9 غشت 1991 أي قبل
عشرة أيام فقط
من مناسبة
ذكرى 20 غشت
التي تجسم
"الموقف
الوطني" في
المغرب، المتمثل
في الوفاء
للبيعة من طرف
كل من الملك والشعب.
فهاهنا نوع من
الإحراج:
الموقف
الوطني هنا
يحرج
المبادرة
السياسية
التي اتخذت
بقبول
الاستفتاء في
قمة نيروبي.
وهناك إحراج
ضمني آخر وهو
أن المرحوم
عبد الرحيم
وأعضاء المكتب
السياسي قد
اعتقلوا
وحوكموا ظلما:
فهم قد تمسكوا
بالموقف
الوطني ضدا
على الانتهازية
السياسية.
لقد
اعتبر بعض
الإخوان
الذين قرؤوا
ذلك المقال
يوم صدوره
أنني قد
تجاوزت به بعض
"الحدود" وأن
الأمر قد لا
يخلو من
"تبعات" أو
متابعات من
طرف "الحكم".
أما أنا فلم أكن
أعير كبير
اهتمام لمثل
هذه الأمور.
لقد كنت أتمسك
دائما في ما
كتبت (باسمي
أو باسم الجريدة
أو باسم الحزب
وهو شيء
كثير)، بمبدأ "إحراج
السياسية
بالموقف
الوطني".
وهذا ما جعل
جميع ما كتبت
لم ينتج عنه
ردود فعل من
قبيل حجز
الجريدة أو
الاعتقال أو
ما هو أبعد من
ذلك([ii][2]). لقد حرصت
دائما على جعل
الصياغة
بالصورة التي
يتبين فيها
بوضوح أن
الموقف
الوطني فيها
يحرج
الاعتبارات
السياسية
الظرفية.
وهذا
المبدأ لم
يراع في صياغة
بلاغ المكتب
السياسي حول
الاستفتاء
–وقد كتب أصلا
بالفرنسية- وكانت
النتيجة
الاعتقال
والمحاكمة
والنفي إلى
ميسور([iii][3]).
- بيان
المؤتمر
الوطني
الثالث
والمثال
الثاني الذي
أريد الإشارة
إليه، وإن كان
أسبق زمنا من
الأول، يخص
البيان
السياسي
للمؤتمر
الثالث (عام 1978).
لقد أثير حول
هذا البيان
لغط كبير
بمجرد أن
انتهيت من
قراءته في قاعة
المؤتمر وسط
تصفيقات
وهتافات أرعبت
بعضهم في
صفوفنا
وأربكت رجال
الشرطة والمخاربات.
وما زال هذا
البيان شبه
"محاصر" إلى اليوم
داخل بعض
الأوساط في
حزبنا بسبب
عنفه المزعوم([iv][4]).
كان
من نتائج
"الولولة"
التي أحدثتها
قراءة البيان
في جانب في
صفوف بعض
أعضاء المكتب
السياسي وبعض
"الأطر"،
والارتباك الذي
وقعت فيه
المخابرات،
أن وصلت إلى
القصر أصداء
ضخمت ما حصل
تضخيما لا سند
له، وقد حاولت
بعض العناصر
استغلال ذلك
لدفع المرحوم
الحسن الثاني
إلى اتخاذ
موقف ضد
الاتحاد. فعلا
كان هناك –حسب
معلوماتنا- من
دفع إلى تأزيم
الموقف
واللجوء إلى
الاعتقالات
من جديد. فكان
الرد أن
بادرتُ في
اليوم الثاني
لصدور البيان
إلى كتابة
مقالات
متسلسلة أشرح
فيها مضمونه
وآفاقه، مما
جعل بعضهم
ينصح بعدم
اتخاذ موقف ضد
الاتحاد حتى
تنتهي
المقالات.
وعندما انتهت
هذه المقالات
التي استمرت
بضعة أيام،
كان الرأي
الغالب في
اجتماع من
يهمهم الأمر
-وقد دافع عنه
من ليس من
الضروري ذكر
اسمه الآن- هو أن
مضمون البيان
كما شرحه
كاتبه لا
يختلف في شيء
عما يكتبه
دائما. هنا
أيضا انتصر
نفس المبدأ:
مبدأ إحراج
السياسية
بالموقف
الوطني. ولم يحدث
أي رد فعل
سلبي ضد
الاتحاد.
-
مشروع حكومة
تناوب بقيادة
المرحوم عبد
الرحيم
أما
الواقعة
الثالثة التي
أريد ذكر بعض
تفاصيلها هنا
والتي انتصر
فيها هي
الأخرى نفس
المبدأ،
فتتعلق
باقتراح
اقترحه علي
المرحوم عبد
الرحيم. كنت
آنذاك عضوا في
المكتب
السياسي، وكنت
مكلفا
بمحاولة
إنهاء النزاع
بين بعض أعضاء
المكتب ومن
كان هؤلاء
الأعضاء
يسمونهم بـ "جماعة
بنعمرو". كنت
أزور المرحوم
عبد الرحيم
زيارات خاصة
خارج
اجتماعات
المكتب
السياسي (وقد
استمر هذا بعد
استقالتي من
هذا المكتب) فنتحدث
في أمور لا
تسمح ظروف
الاجتماعات
الرسمية
بالحديث فيها
عادة. وذات
مرة همس في
أذني وقد أمسك
بيدي في باب
منزله وهو
يودعني، قائلا:
"لقد وقع بي
اتصال، وهناك
اقتراح بأن
ندخل
الحكومة"؟
قلت : " و بأية
مناسبة"؟،
"ما هي وما
لونها؟". أخذ
يشرح لي
الأمر، وكان
الموضوع قريبا
من "التناوب"
الذي حصل بعد
ذلك بما يقارب
العشرين سنة
بقيادة الأخ
عبد الرحمان
اليوسفي. قلت
للمرحوم: "أنا
شخصيا لا أرى
مانعا. خصوصا
وقد عودتنا
أنك تستطيع أن
تغادر متى بدا
لك أن الأمر
يتطلب ذلك". ثم
أضفت : "ولكن المشكل
هو في إقناع
الإخوان
خصوصا أعضاء
اللجنة
المركزية. فما
أظن أنهم
سيوافقون"!
قال : "هذا
دورك. حاول أن
تقنع الخوت"
(=الاخوة)؟
بعد
أيام قمت
خلالها بجس
النبض بصورة
غير مباشرة،
ثم عدت إليه
وقلت:
"المسألة غير
ناضجة الآن"؟
قال : "نحن حزب
ديموقراطي.
يمكن أن نطرح
المسألة
للتصويت،
وإذا قبلت
الأغلبية،
فعلى الأقلية
أن
تسير". قلت:
"في هذه الحالة
سأكون أنا مع
الأقلية ولن
أسير"؟، فضحك
وقال:
"لماذا"؟
قلت:"لأن
المبدأ الذي
أسير عليه،
وقد اتفقنا
عليه معا، هو
أنه "إذا تعارض
موقف سياسي ما
مع وحدة الحزب
فيجب اختيار
وحدة الحزب".
قال: "معك
الحق، لنترك
المسألة إلى حين
نضجها، وأنا
نفسي لست
مطمئنا إلى
الضمانات
المقترحة".
-
مع اليوسفي في
استشاراته
حول تجربة
التناوب
الموقف
نفسه تكرر مع
الأخ عبد
الرحمان
اليوسفي
حينما عرِضت
عليه قيادة
التناوب. وكما
هو معلوم فقد
قام
باستشارات واسعة
شملت
المسؤولين
السابقين في
الاتحاد، حتى
من اختار منهم
موقعا خارج
الاتحاد منذ
زمان. أبديت
رأيي. وكان
باختصار كما
يلي: هناك اختياران:
إما الدخول في
التجربة
الآن، وإما الانتظار،
ومع أن الحجج
متكافئة
بالنسبة للاختيارين،
فأنا أفضل
الانتظار.
ولكن إذا كنت تميل
إلى الاختيار
الأول فأنا لن
أطلب منك الحجج
لأن الشيء
الذي يحسم في
مثل هذه
الأمور ليس
الحجج بل
الثقة. وثقتي
بك أمس واليوم
لا تتزعزع.
وأنا أول من
يعرف أنك
ستغادر
المكان عندما
يتبين لك أن
لا فائدة في
المكوث فيه.
ومع ذلك فأنا
أرى ضرورة
موافقة
اللجنة
المركزية بأغلبية
كبيرة حتى لا
يحصل تصدع في
الحزب. وكررت
القول: إن
المبدأ عندي
في مثل هذه
الأمور هو أنه
إذا تعارض
الموقف
السياسي مع
وحدة الحزب
فيجب اختيار
وحدة الحزب.
قال: لن أوافق
على الدخول في
التجربة إلا
بموافقة
اللجنة المركزية
ومن هم خارج
اللجنة
المركزية من
مسئولي حزبنا.
وفعلا، كانت
الموافقة من
الجميع تقريبا.
قد
يعترض بعضهم
متسائلين :
لماذا لم
ألتزم بهذا
المبدأ إزاء
"الانفصال"
عن حزب
الاستقلال في 25
يناير 1959"؟
أفضل
ترك الجواب عن
هذا السؤال
إلى أن نفرغ
من تقديم
النصوص التي
تحكي مرحلة
التأسيس
والتعليق
عليها، وسيكون
ذلك خاتمة
لهذا الكتيب
الأول.
***
وبعد،
فربما يلاحظ
القارئ أنني
بهذه الاستطرادات
قد تجاوزت
حدود هذا
المدخل. والحق
أنه كان لابد
منها لتحديد
الموقع الذي
أتحدث منه. لقد
انطلقت من طرح
مسألة المنهج.
هذا صحيح.
ولكن المنهج
لا يقوم في
فراغ. وقد سبق
لي أن شرحت
العلاقة بين
المنهج
والرؤية
وبينت أن
الرؤية هي التي
تحدد المنهج([v][5]). وإذن
فلقد كان علي
أن أوضح
الرؤية التي
تؤطر عندي
"المذكرات
السياسية"،
والتي قد يجوز
لي الآن –بعد
الذي شرحته
أعلاه- أن
أصفها أيضا
بأنها مذكرات
"وطنية".
ليست
هذه المذكرات
إذن من ذلك
النوع الذي
يكتبه رؤساء
الدول أو
رؤساء
الأحزاب
وبكيفية عامة
"الفاعلون
السياسيون"،
يعرضون فيها
وقائع من
حياتهم
السياسية
ويلقون فيها
أضواء على
أحداث شاركوا
في صنعها الخ.
وليست هذه "المذكرات"
من صنف
الكتابة
التاريخية
التي يجتهد
فيها المؤرخ
في فصل نفسه
–بقدر ما
يستطيع- عن
الأحداث التي
يؤرخ لها؛ ولا
هي من صنف السيرة
الذاتية التي
يتحدث فيها
الكاتب عن نفسه
بضمير
المتكلم أو
المخاطب أو
الغائب… ليعرض
تجربته
الشخصية في
مجال من
مجالات
الحياة، أو
فيها كلها إن
هو استطاع.
إنها ليست لا
هذا ولا ذاك
ولا ذلك! وإن
كانت ستحتوي
على "شيء ما" من
كل ذلك! إن
الأمر يتعلق
أساسا بتقديم قراءة
تمتزج فيها
الذكرى
والرأي
والتحليل
لمسار وتموجات
"الحركة"
الداخلية في
الوطنية المغربية،
منذ نشأتها
إلى اليوم.
إننا لن نعرض
لنضال هذه
الحركة
الوطنية ضد
الآخر الأجنبي
إلا عرضا،
وإنما سنركز
اهتمامنا على
تطورها
الداخلي
وعلاقة
أجزائها
بعضها ببعض.
ونحن هنا لا
نقصد بـ
"الحركة
الوطنية"
الأحزاب التي
ناضلت من أجل
الاستقلال
وتناضل من أجل
الديموقراطية
فحسب، بل نقصد
بها كذلك
المؤسسة الملكية
بوصفها كانت
وما تزال جزءا
أو طرفا في
الصراع الذي
خاضته تلك
الأحزاب مع
القوى الاستعمارية
وفي سبيل
إرساء وترسيخ
الديموقراطية.
إنها
قراءة من جملة
قراءات ممكنة.
ولكنها تتميز
في نظري
بكونها:
الموقف
الوطني في
السياسة، كما
عشته، يحكي
قصته: قصة
النضال من أجل
مغرب متحرر،
ديموقراطي
وتقدمي.
[i][1] -
سنعيد نشره في
مرحلة لاحقة.
[ii][2]-
ويمكن أن أدعي
أن اعتقال
البصري
واليوسفي ، في
ديسمبر 1959، وهو
الاعتقال
الذي شكل
بداية القطيعة
مع الحكم، كان
بسبب مقال نشر
في "التحرير"
أثناء غيابي
في إقليم
تافيلالت حيث
كنت أقوم بـ"تحقيق"
في ضيافة "جيش
التحرير"
هناك. ولو كنت
حاضرا لما
نشرته كما
نشر، ولما وقع
ما وقع. سأورد
تفاصيل هذه
الحادثة التي
كثرت فيها التأويلات
في كتاب لاحق
من هذه
السلسلة.
[iii][3] -
من الجدير
بالإشارة هنا
إلى أن ما
أثار رد الفعل
الذي أدى إلى
محاكمة أعضاء
المكتب
السياسي ليس
مضمون البلاغ
الذي أصدره ضد
الاستفتاء بل
مجرد عبارة
اعتبرت مسا
بشخص الملك. وقد
قيل يومها على
لسان مسؤول
كبير "ذائع
الصيت": "لو
كان معهم فلان
(يعني كاتب
هذه السطور) لما
وقعوا في هذا
المحظور" (كنت
آنذاك قد استقلت
من المكتب
السياسي). وقد
حاول الحكم
تدارك الموقف
وتجنب
المحاكمة
وإطلاق الأخ عبد
الرحيم ومن
معه يومذاك في
سجن لعلو
بالرباط قبل
المحاكمة،
وقد أُبلِغت
بذلك بواسطة "مرسول"
طلب مني باسم
جهات عليا
إصدار بيان يضع
الأمور في
نصابها ويجعل
المحاكمة غير
ذات موضوع.
اتصلت بالأخ
عبد الرحيم في
السجن الاستشارة
بواسطة
المحامي الأخ
الصديقي. ولكن
سوء نية بعضهم
دفع إلى
التشكيك في
نيتي والخوف
من أن أكون
أريد
"السيطرة على
الحزب"،
الشيء الذي
أفسد العملية
من السجن،
وعيون الحكم
تسمع وترى في
كل مكان،
فكانت
المحاكمة
وكان النفي إلى
ميسور.
أما بصدد
المقال الذي
كتبت، موضوع
الحديث
أعلاه، فقد
جاء الجواب
عنه مباشرا في
خطاب الملك
الحسن الثاني
يوم 20 غشت –كما
توقعت- وذلك
حينما قال ما
معناه: "إن من
يؤاخذوننا
على قبول مبدأ
الاستفتاء،
عليهم أن
يستحضروا
الظروف
الدولية التي
قبلنا فيها
هذا المبدأ".
وذلك إشارة
إلى الضغوط
التي مورست آنذاك
على الحكم في
المغرب من طرف
أصدقائه.
[iv][4] -
كتبت البيان
قبل المؤتمر
بأكثر من عشرة
أيام، بتكليف
من المكتب
السياسي،
وقدمته للمرحوم
عبد الرحيم
فألقى عليه
نظرة ثم قال :
ادفعوه
ليترجم إلى
الفرنسية.
أعطيت النسخة
لليازغي
وأخبرته بما
قال عبد
الرحيم وقلت
له إدفعه
للترجمة. فقال
: ومن تقترح؟
قلت بعد لحظة تفكير:
خالد عليوة،
وكان مكلفا
آنذاك بجريدة "ليبراسيون"
ويشتغل في
"المحرر".
فعلا ترجم الأخ
عليوة البيان
وأعطاه
لليازغي الذي
أعطاه للأخ
عبد الرحيم،
وقد قرأ منه
جزءا. وأثناء
المؤتمر وعقب
قراءتي
للبيان عدت
إلى المنصة
بجانب الأخ
المرحوم عبد
الرحيم. فقلت
له "أش ظهر لك"؟
قال إن
العبارات
التي تكررت
فيها كلمة
"المخزن"
سيتضايق منها
المخزن. فقلت
له لا أظن، فقد
استعملنا مثل
هذه العبارات
في التقرير
الإيديولوجي
سنة 1975 ولم يكن
هناك رد
فعل. قال : "ما
شي بحال بحال".
ولم يضف شيئا.
بعد ذلك
مباشرة
فوجئت بما
يشبه "الولولة"
من طرف بعض
أعضاء المكتب
السياسي وغيرهم،
حتى إن أحدهم
ذهب يجري إلى
الجريدة لإيقاف
صدور البيان،
وذلك مباشرة
بعد سماعه. ولكن
الجريدة كانت
قد طبعت، وكنت
قد أعطيت البيان
للمحرر
المسؤول قبل
قراءته في
المؤتمر ليعده
للنشر بمجرد
قراءته
والمصادقة
عليه في المؤتمر.
وقد صدر
البيان على
صدر الجريدة
في عدد الغد
مباشرة،
وتبين أن تلك
"الولولة" لم
يكن لها ما
يبررها.
[v][5] - نحن والتراث.