خطاب "الوحدانية" في عصرنا...!
هل سيستسلم العالم؟
محمد عابد الجابري
يبدو أن عصرنا يتميز بطابع فريد لم يشهده التاريخ من قبل، طابع يمكن وصفه أو تسميته بـ "الوحدانية". فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان "يتقاسم" العالم مع المعسكر الرأسمالي الغربي، حلت "الوحدانية" محل التعدد، ليس فقط على مستوى الصراع بين "الشرق" و"الغرب"، بل أيضا على مستوى كل منهما. ذلك أنه لا المعسكر الشيوعي ولا المعسكر الرأسمالي كان واحدا موحدا. بل لقد كان كل منهما متعددا: كان كل منهما عبارة عن تحالف بين أطراف يجمع بينها "العداء" للمعسكر الآخر، ولكن مع الاختلاف حول الدوافع والأهداف وطريقة خوض الصراع والحدود التي يجب أن يقف عندها. وأكثر من ذلك كان هناك داخل كل معسكر صراع يزداد مع الأيام نموا واستفحالا: فداخل الكتلة الشيوعية كان الاتحاد السوفيتي شيئا وكانت الصين شيئا آخر... وداخل المعسكر الرأسمالي الغربي كانت الولايات المتحدة الأمريكية شيئا، وكانت الأقطار الأوروبية شيئا آخر: كانت الولايات المتحدة تقاتل بمفردها في كوريا الجنوبية وفي فيتنام وفي أمريكا الجنوبية الخ، وكانت فرنسا تقاتل بمفردها في الهند الصينية ثم في المغرب العربي الخ. وكان موقف الولايات المتحدة من الصراع العربي الإسرائيلي يختلف -على الأقل من حين لآخر- عن موقف كل من فرنسا وبريطانيا، اللتين لم تكونا دائما على خط واحد لا في هذا الصراع ولا في غيره من الصراعات الدولية...
وعندما انهار الاتحاد السوفيتي تطورت الأمور عكس ما كان متوقعا –على الأقل على مستوى المنطق! ذلك أن اندحار العدو المشترك ينتج عنه عادة انحلال عرى التضامن والتحالف، وانتشار التعدد واستفحال الخلاف، في الطرف الذي كان يصارعه. ولكن الذي حدث هو العكس! لقد دخل الجميع تحت "جلباب العم سام". وهكذا فـ "القطب الواحد" الذي كان من المتوقع أن يكون متعددا أكثر من ذي قبل أصبحت "الواحدية" فيه "وحدانية"! لم يعد فيه "الرأي" يراعي "الرأي الآخر"، بل أصبح "الرأي الأمريكي" يمثل "الرأي الوحيد"، وذلك إلى درجة أن الرئيس بوش الحالي لم يتردد في رفع شعار : "من ليس معنا فهو ضدنا"!؟
واتسع نطاق هذه "الوحدانية" لتفرض نفسها على الخطاب السياسي المعاصر بأكمله، وفي كل مجال. وفيما يلي أمثلة:
- فـعبارة "هيأة الأمم المتحدة" التي كانت تحتل حيزا هاما في الخطاب العالمي وبالتالي تحظى بنوع من الاعتبار، حلت محلها عبارة "المجتمع الدولي" وكأن أمم الأرض قد اتحدت وكونت "مجتمعا" واحدا أو "جماعة" واحدة! لقد أصبحت "هيأة الأمم المتحدة" اليوم أشبه ما تكون بقطار قديم أدخل مأرب العربات القديمة التي تترك للصدأ ينخر كيانها. لقد تركت مكانها لـ"قطار" جديد اسمه المجتمع الدولي. ("المجتمع" مفرد بينما "الأمم" جمع). والفرق من الناحية السياسية واضح: "الأمم" تضم مجموعة من الدول والحكومات، ولا يتصور وجود أمم عليها حكومة واحدة، خاصة في الخطاب السياسي الغربي الذي يقترن فيه اسم الأمة بالدولة (الدولة/الأمة Etat-Nation. أما "المجتمع" فهو يحتمل دولة واحدة بلغ التعدد فيه ما بلغ (كالهند مثلا). "المجتمع الدولي" عبارة توحي بوجود دولة واحدة على رأسه، وتحيل إليها. أما اسمها فمعروف: إنها "الولايات المتحدة"، التي أصبح اسمها ينطق بدون إضافة لفظ "أمريكية"، ليترك المجال للفظ آخر لا ينطق ولكنه يفهم: لفظ "الدولية"، فتصبح العبارة المخفية هكذا: "الولايات المتحدة الدولية" رئيسة "المجتمع الدولي".
- ليس هذا مجرد لعب بالألفاظ بل إنه التعبير الصريح عن الحقيقة الملموسة، عن الواقع القائم الآن. يكفي للبرهة على ذلك برهنة وجودية أن نشير إلى أنه في أيامنا هذه كثيرا -بل غالبا إن لم يكون دائما- ما يحدث أن تصوت "الأغلبية الساحقة" في هيأة الأمم المتحدة لفائدة قرار ما، ولكن يكفي أن تعترض عليه الإدارة الأمريكية ليقال إن "المجتمع الدولي" يرفض ذلك! لقد كان ما يلفت النظر في "هيأة الأمم المتحدة"، قبل عقد من السنين، هو ارتفاع عدد الدول الأعضاء فيها بانضمام الدول المستقلة حديثا، وذلك إلى درجة أن كثيرا من المحللين الاستراتيجيين لم يترددوا آنذاك في القول إن السياسة العالمية ستصبح في أيدي "الدول السائرة في طريق النمو"، لكونها أكثر عددا في "هيأة الأمم المتحدة". أما ما نراه اليوم فهو أن هذه الكثرة من "الدول السائرة في طريق النمو" قد أصبحت أصفارا على يسار العدد "واحد". أما بقية الدول، وأعني الدول النامية المتقدمة المصنعة، سواء كانت من الشرق أو من الغرب، فهي فعلا على يمين العدد "واحد"، ولكن بعد الفاصلة. إنها مجرد كسور عشرية للواحد الأحد.
- وأما "مجلس الأمن الدولي" الذي كرس التعدد في كيانه منذ تأسيسه، بالاعتراف بحق النقض –للأربعة الكبار على الأقل- فقد صار الكلام عنه بعبارة "مجلس الأمن" فقط. إن إسقاط لفظ "الدولي"، في عبارة "مجلس الأمن الدولي"، يفسح المجال للفظ "القومي" في عبارة "مجلس الأمن القومي" (الأمريكي)؛ وهكذا فحذف "الدولي" من الأولى هو من أجل "القومي" (الأمريكي) في الثانية. والأمن الدولي والأمن القومي (الأمريكي) في هذه الحالة، يتماهيان، أعني أنهما يقدَّمان بوصفهما يحيلان إلى ماهية واحدة!
- وبما أن الألفاظ والعبارات يستدعي بعضها بعضا فلنفسح المجال لعبارة "المصالح القومية الأمريكية في العالم" التي يرعاها "مجلس الأمن"، في معناه الأحادي الأخير. العبارة في ذاتها تحمل تناقضا: ذلك أن "المصالح القومية" في معناها اللغوي، "مصالح وطنية" أي مصالح تخص الوطن. ولكل وطن مصالحه. أما عبارة "مصالح وطنية في العالم" فهي عبارة عدوانية لأنها تنطلق من كون العالم عبارة عن فضاء خال من الأوطان. والحروب في تاريخ البشرية كانت كلها تقريبا بسبب هذا النوع من العدوانية التي كان يطلق عليها قبل عقد من السنين لفظ "الإمبريالية"، وقد أبعد هو الآخر من قاموس الخطاب السياسي المعاصر، تماما كما أبعدت عبارة "ما رواء البحار"، التي كانت توظف في نفس المعنى: كانت الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر (فرنسا وبريطانيا خاصة) تتحدث عن "مصالح ... فيما وراء البحار"، وباسم هذه "المصالح" خاضتا حروبهما الاستعمارية. ومع ذلك لا بد من إبراز الفرق بين العبارة التي تستعملها الإدارة الأمريكية (أعني "المصالح القومية في العالم) والعبارة التي كانت تستعملها الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر والعشرين. كانت فرنسا تتحدث عن "المصالح الفرنسية فيما وراء البحار"، وكان بريطانيا تتحدث عن "مصالح المملكة المتحدة في ما وراء البحار" وهكذا. وإذا لم تخني ذاكرتي فلم تستعمل أي منهما عبارة "المصالح القومية فيما وراء البحار"، وإذا استعملت هذه العبارة في وقت ما فذلك لم يكن القاعدة، كما هو الشأن اليوم بالنسبة لعبارة "المصالح القومية الأمريكية في العالم".!
- ومن الألفاظ التي تحتل الصدارة اليوم، في قاموس الخطاب السياسي الأحادي السائد، لفظ "الإرهاب"! لقد تمت "عولمة" هذا اللفظ، ليس فقط من خلال نشره وتعميمه كسلعة خطابية (بكسر الخاء) عبر العالم، كما هو شأن أكلة "مكدولاند" مثلا، بل أيضا من خلال تحويل العالم بأسره إلى فضاء لظاهرة واحدة : الإرهاب. وهذا مفهوم. فالطرف الذي يتحدث عن "مصالح قومية" في العالم وعن ضرورة حمايتها لا يمكن أن ينشر شيئا آخر غير الإرهاب، إرهاب مضاعف: إن عبارة "المصالح القومية في العالم" عبارة عدوانية كما قلنا، وبالتالي فاستعمالها واتخاذها كشعار يرهب العالم كله: أمما ودولا وشعوبا. فـ "المصالح في العالم" لا تتصور إلا على حساب مصالح بلدان العالم، وبالتالي لا يستقيم أمرها إلا بحمايتها، إما بالتهديد وإما بـ"الاحتواء" وإما بـ "الضربات الرادعة" الخ، وكلها إرهاب! إرهاب يحمي الإرهاب.
والإرهاب بهذا المعنى يلغي نقيضه الذي هو "المقاومة". وكما هو معلوم ومفهوم في جميع اللغات فلفظ "الإرهاب" يدل على فعل، فعل الإرهاب، كما يدل "الضرب" على فعل الضرب. هذا بينما يدل لفظ "المقاومة" على "رد الفعل". فالمقاومة لا تتصور إلا كرد فعل دفاعي ضد العدوان، ضد الظلم، ضد الاحتلال الخ. أجل، يشترك الإرهاب والمقاومة في أن كلا منهما يمارس العنف بشكل ما. غير أن ممارسة العنف في حال الإرهاب تكون ابتداء، أما في حال المقاومة فالعنف هو لرد العنف، هو شيء مشروع، إنه دفاع عن النفس، رد للظلم.
هذا التمييز بين الإرهاب والمقاومة يرفضه "الرأي الوحيد" السائد. ومن الطبيعي أن يرفضه لأنه إنما يمارس وحدانية الرأي باللجوء إلى الإرهاب. لقد قامت محاولات عديدة على مستوى المؤسسات الدولية تدعو إلى التمييز بين الإرهاب والمقاومة، فكان رد فعل "الرأي الوحيد" أن هذا نوع من التزكية للإرهاب! وقامت أصوات عديدة تنادي بضرورة وضع تعريف لـ"الإرهاب"، فكان رد فعل الرأي الوحيد أن "الإرهاب هو الإرهاب" بناء على: "كل من ليس معنا فهو إرهاب".
***
وبعد فأوجه الشبه بين مفهوم الإرهاب عند كل من الإدارة الأمريكية الحالية وحكومة إسرائيل الحالية لا تحصى ولا تحتاج إلى عد... لنقتصر فقط على وجه شبه واحد:
شارون يريد أن يقضي على "الإرهاب" باقتحام الضفة والقطاع بدباباته وجنوده، مقتنصا معتقلا محرقا مهدما مخربا ... ولكن هل نجح في حمل الشعب الفلسطيني على الاستسلام؟ إنه حتى لو ألقى جميع قنابله الذرية على الفلسطينيين فإن الذين سيبقون على قيد الحياة، مرضى أو مشوهين أو أصحاء، سيتابعون الانتفاضة أو يستأنفونها... هذا لاشك فيه!
فهل ستنجح الحرب على "الإرهاب" في جميع أنحاء المعمور؟ أكيد أن الطرف الذي يخوض هذه الحرب لديه من القنابل الذرية ما سيمكِّنه من أن يفعل في أقطار العالم ما يمكن لإسرائيل أن تفعله في مدن وقرى فلسطين، ولكن هل سيستسلم العالم؟