السابق

 

المقاومة والإرهاب ... بين السياسة والتاريخ

 

محمد عابد الجابري

 

إذا أراد المرء اليوم القيام بإحصاء في خطاب وسائل الإعلام العربية، المسموعة والمرئية والمكتوبة، لمعرفة أي الكلمات أكثر رواجا فيه، فإنه سيصل إلى النتيجة التالية: "بوش" و"الإرهاب"!

إن اقتران اسم "بوش" بـ"الإرهاب" يمكن تبريره بكون الرئيس الأمريكي قد اختار شعارا له "محاربة الإرهاب"، وبما أنه يجوب الدنيا، من غربها إلى شرقها، متحدثا في كل مكان عن "الإرهاب"، فمن المفهوم تماما أن يتردد اللفظان "بوش" و"الإرهاب" في وسائل إعلام البلدان التي يزورها، في أوروبا وآسيا، لأن التعامل مع الرؤساء الضيوف يقتضي ذكر أسمائهم وبعض كلامهم. ومعلوم أن "كل" كلام للرئيس الأميركي، وليس بعضه فقط، يشتمل على كلمة "إرهاب". أما أن يكون تكرار الكلام عن "الإرهاب" ينطوي هو نفسه على إرهاب، وأما تحليل هذا النوع "الرئاسي" من الإرهاب، فذلك ما يقع خارج اهتمامنا هنا.

ما نريد أن نسجله هنا، بادئ ذي بدء، هو هذه الظاهرة، الغريبة العجيبة حقا، التي تتمثل في كون وسائل الإعلام العربية، والفضائيات منها خاصة، وبعضها بصفة أخص، لا تكاد تخلو برامجها الإخبارية، حتى وإن استغرقت النهار كله، من ترداد وتكرار اسم "بوش"، مقرونا في معظم الأحيان بـ "محاربة الإرهاب"! إن المتتبع لفضائية السي، إن، إن، الأمريكية مثلا، وهي الموجهة إلى العالم كله للدعاية لأمريكا وسياستها وحكومتها وعلى رأسها بوش، يخترق سمعه ومجاله البصري، فعلا، اسم"بوش" ولفظ "الإهاب"، ولكن من حين لآخر فقط، أي عندما يكون الخبر يكتسي أهمية ما تفرض ذكر ذلك. وقد تمر الساعات الطوال، بل الأيام والليالي، لا يحضر فيها لا اسم "بوش" ولا لفظ "إرهاب".

أما عند بعض فضائياتنا العربية فلا يخلو وقت من ذكر (لا أقول "من ذكر الله") بل أقول، مع الأسف، "من ذكر بوش"، وتكرار "الدرر" التي يتفوه بها بوش. فالفطور (حتى في رمضان) وما بين فطور وفطور، آناء الليل وأطراف النهار، وما بينهما من لحظات الزمان ... كلها عامرة بأخبار بوش، بالصوت والصورة، والترجمة الفورية، والتعليق الفوري المباشر الخ، بكيفية تبرهن فعلا على قدرة "العرب" على التعامل مع التقنيات الإعلامية بنجاح لافت للنظر حقا! ولكنها تدفع المشاهد، مع ذلك، إلى التساؤل: "هل أصبح "بوش" رئيسا عربيا؟ وبما أن الرؤساء العرب "الآخرين" قليلا ما يحضرون، وربما يجوز القول إن حضورهم يأتي –في إطار "التوازن- بالتساوي مع الشخصيات الإسرائيلية وعلى رأسها شارون، فإن المرء لا يملك إلا يتساءل، أحيانا على الأقل: هل بات، وأصبح، وصار الرئيس بوش هو الرئيس العربي الوحيد؟ وبما أن اسم بوش مقرون بلفظ "الإرهاب"، لا ينفك عنه، فإن المشاهد لا يملك إلا أن يتساءل أيضا: ألا يجوز أن يكون في ذلك ما يمكن أن تكون نتيجته "إرهاب" المشاهدين العرب بتكرار مشاهدة بطل "الحرب ضد الإرهاب؟

أنا شخصيا لست من "المتعصبين"، أصحاب "الفكر الوحيد"! أنا أومن بمبدأ "الرأي والرأي الآخر"؟ ولذلك أجدني أتساءل: إذا كان "الرأي" هو الخطاب الذي يستعمل لفظ "الإرهاب"، فأين خطاب "الرأي الآخر" الذي يستعمل لفظ "المقاومة"، بديلا له؟ وإذا كنا نضع أنفسنا، نحن "العرب"، في موقع "الرأي الآخر" بالنسبة للرأي الذي يصف المقاومة الفلسطينية بـ "الإرهاب"، فلماذا لا نحرص على التوازن فنستعمل لفظ "المقاومة" ولفظ "الإرهاب" بالتساوي! ولا أضيف: "وذلك أضعف الإيمان"، فالإيمان لا يعترف بهذا النوع من التوازن، بل أقول: ذلك ما يقتضيه مبدأ "الرأي والرأي الآخر"!

على أن مناقشة "القضية" يمكن، بل يجب أن تبدأ من السؤال التالي: هل نحن "العرب" نمثل "الرأي" أم نمثل "الرأي الآخر"، في وسائل الإعلام التي تنسب إلينا كـ"وسائل إعلام عربية"؟

لنقف عند طرح هذا السؤال ولنركز اهتمامنا على رفع بعض الغبن الذي يتعرض له مفهوم "المقاومة" من جراء إمبيرالية شعار "محاربة الإرهاب"!

***

سمعت منذ خمس عشرة سنة، حوارا مع وزير الخارجية في الحكومة الفرنسية أجرته معه إذاعة فرنسا الدولية تناول مختلف القضايا التي تهم الرأي العام الفرنسي في ذلك الوقت. كان هناك صحفيون فرنسيون وصحفي عربي من أبناء المغرب العربي شاركوا في الحوار. وكان من بين الأسئلة التي ألقيت على الوزير الفرنسي سؤال ألقاه الصحفي العربي ترتبت عنه جملة أسئلة وأجوبة دارت في صورة مجابهة على الشكل التالي:

- الصحفي العربي: ما موقفكم من الأعمال التي يقوم بها المقاتلون الفلسطينيون، هل هي في نظركم تدخل ضمن الإرهاب أم أنها مقاومة كتلك التي عرفتها فرنسا في الحرب العالمية الثانية؟

- الوزير الفرنسي: نحن ضد أي شكل من أشكال الإرهاب.

- الصحفي العربي: عندما كانت فرنسا محتلة من طرف النازيين قامت فيها حركة مقاومة، فهل تعتبرون ما يقوم به المقاتلون الفلسطينيون مقاومة؟

- الوزير الفرنسي: لقد قلت لك إننا ضد الإرهاب.. طبعا عندما يتعلق الأمر ببلاد محتلة فالأمر يختلف.

- الصحفي العربي: وهل تعتبرون الضفة الغربية وقطاع غزة أرضا محتلة؟

- الوزير الفرنسي: هناك قرار لمجلس الأمن معروف، هو القرار 242. وينص أن على إسرائيل أن تنسحب من أراض محتلة. (هكذا بتنكير كلمة أراض).

- الصحفي العربي: إذن انتم تعتبرون الأعمال التي يقوم بها المقاتلون الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة، أعمال مقاومة. - الوزير الفرنسي: لا تحاول أن تغير إجابتي. لقد قلت لك إننا ضد أشكال الإرهاب.

وكانت ضحكة جماعية من الصحفيين شارك فيها الوزير نفسه.

***

لا أكتم القارىء أنني شعرت ساعتئذ بنوع من المرارة لا أستطيع التعبير عن كنهه وحقيقته، ولكنني أتذكر أنني تمنيت لو كنت مقاوما فلسطينيا في الأراضي المحتلة، إذن لمضيت للقيام بالمزيد من أعمال المقاومة للاحتلال. لقد تراءى لي بكل وضوح- لست أدري كيف- أن المزيد من المقاومة للاحتلال هو وحده الذي يحمل الناس، أقارب وأباعد خصوما وأعداء، على الارتفاع، في وعيهم، بما يسمونه "الإرهاب" إلى ما نسميه نحن : المقاومة! ولكنني، وأنا "القاعد"- بلغة الخوارج- وجدت لنفسي ما خفف عنها بعض المرارة والامتعاض! وهل يحسن "المثقف" شيئا آخر أكثر من تبرير وضعيته... أمام نفسه؟!

لقد نقلت المسألة إذن، أنا "المثقف القاعد"، من السياسة إلى التاريخ، وقلت في نفسي: ترى لو سئل هذا الوزير الفرنسي نفسه في زمان آخر، زمان تكون فيه الثورة الفلسطينية قد حررت أرضها وأقامت دولتها، فهل كان سيتردد في وصف أعمال المقاتلين الفلسطينيين التي ستكون قد أدت إلى قيام الدولة الفلسطينية، بأنها أعمال مقاومة مشروعة؟ لا أظن أنه سيتردد في وصفها بـلفظ "المقاومة" الذي يأتي على لسانه في هذه الحالة بصورة تلقائية عفوية! إنه لمن المستبعد جدا، ومن غير المنتظر، أبدا، أن يستعمل كلمة "إرهاب" في هذا المقام: مقام التاريخ، والحقيقة التاريخية.

نظير ذلك لو سألناه اليوم عن مقاومة صلاح الدين للصليبيين، هل كانت بالفعل "مقاومة" أم شيئا آخر؟ إنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يقول "شيئا آخر"، على الرغم من عواطفه المسيحية إن كانت له مثل هذه العواطف! ذلك لأن الحقيقة التاريخية حقيقة محرجة تفرض نفسها فرضا، فهي حقيقة تم صنعها وانتهى أمرها واكتمل. أما الحقيقة السياسية فهي حقيقة في مرحلة الصنع، لم تكتمل بعد، وبالتالي معرضة لاحتمالات شتى... ولذلك يتردد الناس في شأنها ويختارون الموقف الذي لا يحرجهم ولا يصدمهم بحقائق سياسية أخري.

والحقيقة السياسية التي لا شك أنها ضغطت على الوزير الفرنسي فجعلته يتجنب إطلاق لفظ "المقاومة" على أعمال المقاتلين الفلسطينيين هي وجود إسرائيل، ليس وجودها على أرض فلسطين وحسب، بل أيضا تأثيرها في فرنسا وعلى حكومتها من خلال جماعات الضغط، الاقتصادي والإعلامي والسياسي الخ.

***

على أن الحقيقة التاريخية لا تحرج الخصوم وحدهم بل تحرج أهلها أيضا. فالحقيقة التاريخية التي صنعها صلاح الدين الأيوبي، منذ ثمانية قرون، في تل حطين أولا، ثم في القدس ثانيا، أقول الحقيقة التي صنعها صلاح الدين منذ ألف سنة، تحرج وتتحدى جميع الذين يجعلونها رمزا من رموز ماضيهم ومعلما من معالم تاريخهم: فلسطينيين وعربا مسلمين!

ومن دون شك فعندما يستجيب هؤلاء لهذا التحدي الموجه إليهم من تاريخهم، عندما يحققون ما حققه صلاح الدين... سيرفعون الإحراج، ليس عن أنفسهم وحسب، بل أيضا عن جميع الذين يجدون اليوم أنفسهم، لسبب أو آخر، محرجين أمام سؤال الصحفي العربي: "هل أعمال المقاتلين في فلسطين المحتلة أعمال مقاومة أم إعمال إرهاب؟

لقد أجاب الوزير الفرنسي من موقعه كناطق باسم السياسة الفرنسية، وباللغة الدبلوماسية التي تتجنب "جرح" هذه الجهة أو تلك! إنه كرجل سياسي لا يقول الحقيقة، وإنما يسوسها! و"سياسة الحقيقة" غير، وقول الحقيقة غير: الحقيقة يطمسها السياسي، أما المؤرخ فيبحث عنها، وقد يقولها كما هي.

ووسائل الإعلام مهما كانت جنسيتها، عربية أو غير عربية، ستكون كاذبة ومضللة بالضرورة، إن هي استغرقت وقتَها في تكرار "الحقيقة السياسية" وإهمال الحقيقة التاريخية. إن مصداقية وسائل الإعلام وحيادها وموضوعيتها واستقلالها... كل ذلك يتوقف أولا على مدى عزمها على إحراج الحقيقة السياسية بالحقيقة التاريخية.

أما وسائل الإعلام التي تقول عن نفسها إنها تنطق باسم "أمة" و"وطن" –وليس باسم نظام الحكم فيه- فإن مصداقيتها تتوقف أولا وأخيرا على إصرارها على إحراج السياسة بالموقف الوطني القومي. إنها إن لم تفعل ذلك فستظل هي المحرجة قبل غيرها!