التأمل الثالث :
"11 سبتمبر" ..
كلام فيه... من لغو الصيف!
محمد عابد
الجابري
"11 سبتمبر"
: حدث لا اسم له غير تاريخ وقوعه! نعم، كثيرة هي
الأحداث التاريخية التي يشكل تاريخ وقوعها جزءا من اسمها، ولكن: جزءا فقط!
أما الباقي وهو ضروري فهو الفظ الذي به تتحدد ماهية الحدث. من ذلك على سبيل المثال
لا الحصر، تاريخ 14 يوليوز الذي لا يفيد بمفرده شيئا غير دلالته على توقيت معين.
ولكنه يفيد إفادة عظمى عندما يقرن به حدث من الأحداث التي حصلت فيه: في فرنسا 14
يوليوز رمز للثورة الفرنسية. فهو يكتسب معناه من كلمة "الثورة". و23
يوليو توقيت لا خصوصية له إلا عند المصريين والعرب لأنه رمز للثورة المصرية، ومثل
ذلك 17 أكتوبر (الثورة البلشفية الخ. وهكذا ففي جميع الحالات التي يذكر فيها تاريخ
معين يكون هناك حدث مسمى، أعني اسم لحدث حصل فيه. ومع أن الحدث قد يذكر بدون زمان،
أو يكون من طبيعته أنه لا يدل على زمان كما هو الحال في المصادر (القتل، الضرب،
الكل..)، فإنه لا معنى لزمان معين (توقيت) بدون حدث. لا بد من الفعل أو ما يشير إلى
فعل حصل (الثورة ...). والفعل حدَثٌ مقيد بزمان (ماض، حاضر، مستقبل. والأحداث التي
تحمل توقيتا هي من الماضي).
أما
"11 سبتمبر"، كما صار يتكرر منذ سنة على الألسن وعلى أجهزة وسائل
الإعلام في العالم كله، فهو زمان، أو توقيت، لحدث غير مسمى! غير معين؟ فلماذا؟
هناك سكوت متعمد، بل قل
هناك عجز عن تسمية ذلك الحدث الذي حدث يوم 11 سبتمبر! لقد وقع صدام متعمد مدبر
لطائرات مدنية مع بنايات في البلاد الأمريكية. هذا واقع حصل، ولكن كيف نسمي هذا
الذي حصل؟ لقد وقع ضرب قصور وحصل خلع ملوك وحكام، في فرنسا وروسيا ومصر الخ، وسمي
ذلك "ثورة" أو "انقلابا"، فلا مشاحة هنا في الأسماء! المهم هو
أن هناك لفظ، من مرتبة المفهوم، يكثف مضمون الذي حدث، ينوب عن ذكر تفاصيله التي لا يمكن استقصاؤها ولا اعتماد أي
منها دون البقاء في تحديد هوية الحدث، كحدث تاريخي!
قالوا
عما حدث، في 11 سبتمبر 2001، إنه "إرهاب" تعرضت له الولايات المتحدة
الأمريكية، وهذا واقع لا نقاش فيه. وقالوا إن مدبره هو بن لادن وتنظيم
"القاعدة"، فليكن! وقالوا إن الغاية منه، أو نتيجته على الأقل، هي زرع الخوف والرعب في نفوس الأمريكيين، وهذا
حصل! ولكن لماذا لم يطلقوا على هذا الحدث جملة مفيدة مثل "ضربة بن
لادن"، أو "يوم الفزع في الولايات المتحدة"؟ وما أشبه ذلك!
الإدارة
الأمريكية لا تستسيغ اللفظ الذي يفيد أنها تقلت ضربة؟ هي لا تقبل أن تقول عن نفسها
أو يقال عنها إنها تلقت ضربة من أحد؟ كما لا يفي بغرضها أن يطلق أحد على هذا الحدث
عبارة : "حماقة بن لادن"؟ أو تهوره الخ. لأن الأمر بالنسب إلى الحكام
الأمريكيين هو –أو يجب أن يكون- أكثر من حماقة! يريدونه اعتداء مدبرا. ليس فقط على
مستوى التخطيط والتنفيذ، والحدث تم تدبيره وتنفيذه بتقنية عالية جدا، بل أيضا
–وهذا هو الأهم عندهم- على مستوى "القصد"؟
فما هو هذا
"القصد"؟ قالوا: تدمير أمريكيا.. قالوا ضرب قيمها الخ. لكن الشيء الذي
لم يقبلوا به كمحدد للحدث، وكمبرر للتأريخ له، هو ذكر الدافع إليه. هو البحث عن
"السبب"، مع أن تعيين السبب –ولو على سبيل الافتراض- عنصر ضروري في
تعيين الحدث. فالحدث الذي لا سبب له عبث، لا عبرة به، ليس من فعل العقلاء. فأفعال
العقلاء مصونة عن العبث!
للهروب من طرح مسألة
السبب وصفوا الحدث بأنه "إرهاب"، لأن "الإرهاب" -بالتعريف-
يتحمل السكوت عن سببه. يكفي فيه تعيين
"الإرهابيين"، ومن ثمة يأتي رد الفعل في صورة "ثأر" : ضرب
الطالبان ودولتهم في أفغانستان وحليفهم بن لادن؟
قلنا:
"الثأر". و"الثأر" ليس فعلا بل هو "رد الفعل"! وما
صدر وما زال يصدر عن الإدارة الأمريكية لا يمكن وصفه بغير "رد الفعل".
ومن خصائص رد الفعل أنه انفعال، أنه لا يصدر عن العقل الذي به يتميز الفعل
الإنساني. رد الفعل يصدر عن قوى أخرى غير العقل، توصف بـأنها من "فعل الغريزة
العمياء" أو ما أشبه هذه العبارات!
بطبيعة
الحال لم يستعملوا كلمة "ثأر" في خطابهم الرسمي، مع أنها استعملت عندهم
في أوساط كثيرة. الخطاب الرسمي للإدارة الأمريكية فضل توظيف لفظ "حرب"!
الحرب ضد من؟ من هو العدو؟ ويأتي الجواب: "الإرهاب"؟
"الحرب ضد الإرهاب"؟ ما معنى هذه العبارة؟
كلمة "حرب"
تستعمل في جميع اللغات في معنيين: حقيقي، ومجازي؟ الحرب بمعناها
"الحقيقي" تقتضي أن يكون هناك عدو مشخص: جيش، دولة. أما في المعنى
"المجازي" فيقصد بها مقاومة آفة من الآفات: الظلم، الفساد، المخدرات،
السيدا، السرطان... و"الحرب" في هذه الحالة تكون لا بالجيوش والمدافع
والطائرات والقنابل الخ، بل تكون بمحاصرة "الآفة"، حتى لا تنتشر أكثر،
وفي نفس الوقت : البحث عن أسبابها، لأن القضاء على الآفات والأمراض الجسمية
والاجتماعية إنما يكون بالقضاء على أسبابها؟
كيف تعاملت الإدارة
الأمريكية مع "الإرهاب"؟
إنها لم تحاول، ولم ترد
ولا تريد، تحديد معنى "الإرهاب" قبل التعامل معه؟ فضلت أن تقوم بمحاربة
شيء مجهول سمته "الإرهاب"! ولكن الناس جميعا يعرفون أن الإرهاب في معناه
الأولي هو سلوك أو فعل، صادر من طرف، يحدث حالة من الرعب والخوف في طرف آخر. هنا
ثلاثة عناصر: الطرف الذي يصدر منه الإرهاب، والطرف الذي يتوجه إليه، والحالة
النفسية التي قوامها الخوف والرعب.
وما من شك في أن
"الحرب ضد الإرهاب" يجب أن تتجه إلى هذه الأطراف الثلاثة؟ ولكن لما كانت
هذه الإطراف إنما تقع على مستوى البنية السطحية لـ "لإرهاب" فإن الوقوف
عندها وحدها في محاربتها يجعل من "الحرب" مجرد "محاربة"، أي
مجرد الاشتراك مع الطرف الآخر في فعل "الحرب"، في التحارب! فالشخص الذي
يحارب يقاتل. فالوصف "مقاتل" يقال باشتراك: فهو مقاتِل (اسم فاعل)
ومقاتَل (اسم مفعول). ومن هنا كانت محاربة الإرهاب تعني في هذا المستوى:
"المشاركة" في فعل الإرهاب. كل طرف يمارس الإرهاب على خصمه، لا بل على
شريكه، في عملية إنتاج الإرهاب! ولا يمكن أن ينفصل الذي يشن حربا ضد
"الإرهاب" عن خصمه إلا إذا ارتفع في محاربته له من مجرد التحرك على
مستوى البنية السطحية إلى تفكيك بنيته العميقة. والبنية العميقة للإرهاب ليست مجرد
عناصر ظاهرة بل هي علاقات خفية! هناك أولا العلاقة بين فعل الإرهاب وما يدفع إليه،
وهي علاقة سببية. وهناك ثانيا العلاقة بين معاناة الإرهاب، أي الحالة النفسية التي
هي الخوف والرعب الخ، وبين ما يحرك هذه الحالة النفسية في نفوس من يعانون منها.
والعلاقة هنا أيضا علاقة سببية، ولكنها من نوع مختلف عن الأولى. الأولى علاقة
سببية على مستوى الدوافع، أما الثانية فهي سببية على مستوى الغايات. الأولى يقع
زمانها وراء فعل الإرهاب، أي في "الماضي". أما الثانية فيقع زمانها أمام
فعل الإرهاب، في "المستقبل" الذي يشمل "الحاضر". وإذن : فلا
بد للحرب ضد الإرهاب، إذا هي أرادت أن ترتفع من مستوى "المشاركة" فيه
إلى مستوى "القضاء" عليه، من التركيز على دوافعه عند الفاعل له، وعلى أسبابه
عند المفعول به، الذي وقع عليه.
وإذن فالسؤال الذي يطرح
نفسه سؤال ذو شقين: لماذا قام الشخص أو الجهة "س" بضرب البنايتين
التجاريتين في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع في واشنطن؟ ثم لماذا أحدث هذا الفعل –أو
هذه الفعلة- ذلك الخوف والرعب في نفوس الأمريكيين، والمقصود أساسا: مَن منهم يتضرر
بهذا النوع من الفعل في الحاضر والمستقبل!
إذا فرضنا سلفا أن
بلادن ومن معه هو الذي قام بالفعل فيجب البحث عن السبب الذي دفعهم إلى ذلك. كما
يجب أن نبحث عن السبب الذي جعل الخوف والرعب يستولي على الإدارة الأمريكية، حقيقة
أو اصطناعا؟ وهذا السؤال الأخير يستوجب الذهاب فيه بعيدا. ذلك لأن "الخوف
والرعب" في نفوس "الأمريكيين" ليس لاحقا لحادث 11 سبتمبر فحسب بل
هو سابق عليه أيضا. دليل ذلك أننا منذ مدة طويلة ونحن نسمع هذا السؤال، الذي له
دلالة خاصة، وقد صدر ويصدر عن أوساط أمريكية مختلفة وبكيفية خاصة من "صانعي
القرار فيها"، السؤال الذي ينطقون به على النحو التالي: "لماذا يكره
الناس الولايات المتحدة"؟
فعلا، لقد كان حادث 11
سبتمبر مناسبة بل ومبررا لطرح هذا السؤال: "لماذا يكره الناس الولايات
المتحدة الأمريكية"؟ ذلك أن جميع القرائن والشهادات والتصريحات التي تواترت
من هنا وهناك تفيد أن "الناس" في أوروبا وآسيا وإفريقيا (وليس في الشرق
الأوسط وحده) كان رده فعلهم، غير المراقب، هو مزيج من الشماتة والفرح وتنفس
الصعداء. بعبارة أخرى: الجميع "أرادها فيهم"! لقد أحست الإدارة
الأمريكية بأن "الجميع أرادها فيها"، لكنها لم تستطع بل ولم ترغب في طرح
السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة: لماذا؟ لماذا أراد "الناس"، وفيهم
عقلاء كثيرون، هذا الفعل "اللامعقول" حين توجه إلى رموز القوة في
الولايات المتحدة الأمريكية؟ والجواب الذي لا تريد الإدارة الأمريكية أن تسمعه هو
التالي: الناس يكرهون، لا الولايات المتحدة الأمريكية، هكذا بإطلاق، بل يكرهون
فيها هيمنتها الاقتصادية وغطرستها العسكرية.
ويبقى لفقهاء السياسة أن يناقشوا ما إذا كان كره الهيمنة الاقتصادية والغطرسة العسكرية جائزا .. أم أنه واجب.. أم أنه مستحب..أم أنه حرام!