السابق

 

التأمل الأول:

تأمل في "حرية التأمل" ..!

 

منذ ثلاث سنوات، على الأقل، خطر ببالي أن أشرع في كتابة سلسلة من المقالات بعنوان "تأملات في أحداث القرن"، والمقصود القرن العشرين.

بدأت في تنفيذ الفكرة يوم 15 فبراير سنة 1999 فكتب ما يشبه تصميما أو برنامجا عاما حصرت فيه الموضوعات التي بدا لي حينها أنها تستحق أن تخص بمقالات في هذه السلسلة. وفي يوم 18 من نفس الشهر والسنة كتبت مقالا شبه المدخل للسلسلة، طرحت فيه جملة من المفاهيم التي تتصل بالموضوع وتشكل نوعا من المنطلق للتفكير في "أحداث القرن".

ثم حدث بعد ذلك أن صرفت النظر عن الموضوع لأسباب لعل أهمها أني كنت منشغلا في ذات الوقت بالعمل في كتابي "العقل الأخلاقي العربي". وعندما أنهيت العمل في هذا الكتاب في يناير 2001 (وقد صدرت الطبعة الأولى بعد ذلك بشهرين : مارس 2001)، تزاحمت أمام ناظري عدة مشاريع: منها ما جاء باقتراح من بعض الزملاء والأصدقاء، مثل مشروع "قراءة معاصرة للقرآن"، ومشروع "تاريخ التفكير العلمي عند العرب" الخ، ومنها ما خطر ببالي وأنا اكتب العقل "الأخلاقي العربي" (مثل مشروع كتاب في موضوع "الأخلاق والأحكام في القرآن")، ومنها ما كنت قد التزمت به في كتابي "حفريات في الذاكرة"، حين نبهت القارئ إلى أن تلك الحفريات تقف زمنيا عند مرحلة الباكالوريا الالتحاق بالجامعة من جهة والانخراط في العمل السياسي من جهة أخرى، ثم وعدت بمتابعة كتابة "سيرتي الذاتية" في هذين المجالين، مجال السياسة ومجال الثقافة. وهكذا قرَّ رأيي في النهاية على كتابة سلسلة من الكتب الصغيرة (في حجم كتاب الجيب) تحت عنوان "مواقف: إضاءات وشهادات" جعلتها مجموعتين: المجموعة الأولى أشبه بـ "المذكرات السياسية"، وقد حصرتها في عشرة موضوعات تصدر في اثني عشر كتيبا (صدر منها لحد الآن سبعة كتب)، والمجموعة الثانية أقرب إلى "المذكرات الثقافية" (في النية الشروع في إصدارها مباشرة بعد المجموعة الأولى).

ولا شك أن القارئ قد انتبه إلى أني استعملت كلمتي "أشبه" و"أقرب"، دلالة على أني لا أدعي أن هاتين المجموعتين تشكلان فعلا "مذكرات" بالمفهوم الذي يعطى لهذه الكلمة عندما يفكر فيها داخل إطار "السيرة الذاتية". ذلك أنها لم تكتب حين وقوع الأحداث التي تتحدث عنها، وبالتالي فهي لا تحمل معنى "المذكرة" (التي يراد منها أن تذكر صاحبها في المستقبل بما وقع في الماضي)، بل هي في الحقيقة عبارة عن "ذكريات"، وربما كانت عبارة: "من ملفات الذاكرة السياسية"، أقرب إلى مضمون المجموعة الأولى. وقد تؤدي عبارة "من ملفات الذاكرة الثقافية" نفس المهمة بالنسبة للمجموعة الثانية.

مشروع "مواقف" قد اكتمل كفكرة وكمواد، وهو يتحقق ضمن الوتيرة الزمنية المحددة له : كتيب يصدر عند بداية كل شهر. فهل يكفي هذا لتفسير هذه العودة إلى مشروع "التأملات"؟

فعلا! ذلك ما يبدو أنه الحافز الذي حفزني إلى هذه "العودة"! ولكي أشرك القارئ معي في خط تفكيري يجب علي أن أصرح بأني قصدت من سلسلة "مواقف" أن تتحدث عن مواقف سياسية وثقافية تنتمي إلى الماضي ولا يكون فيها من "الحاضر" و"المستقبل" إلا ما قد يقرؤه القارئ في بعض عباراتها ... وغني عن البيان القول إن هذه القراءة تبقى من ابتكار القارئ ومسؤوليته بقطع النظر عما إذا كنت أوافق عليها أو لا أوافق.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن أعترف أني أجدني الآن أتحدث عن مشروع يشكل هذا المقال مدخلا إليه، في حين أني أحس بأن العمل في هذا "المشروع" قد انطلق منذ بداية هذه السنة بمقال أسبوعي نشر الأول منه  بتاريخ 15 يناير 2002 في جريدة الاتحاد الإماراتية (في ركن "وجهات نظر" الذي أنشئ في نفس الشهر ويشغل صفحتين ويشارك فيه كتاب من العالم العربي ومن خارجه ويشرف عليه "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية- أبو ظبي"). لقد تناولت هذه المقلات لحد الآن، وقد بلغ عددها خمسا وثلاثين، موضوعات يدور الكلام فيها حول "قضايا الساعة"؛ فهي أشبه ما تكون بـ"تأملات" فيما يجري مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وإذن فهي تختلف عن مشروع "التأملات" الأول، الذي كان موضوعه أحداث "القرن العشرين"، من حيث إنها تتحدث عن الحاضر والمستقبل ولا تستعيد الماضي إلا من أجلهما، بينما كان الاتجاه في المشروع الأول نحو استعادة أحداث من الماضي (القرن العشرين) من أجل الفهم فقط، دونما قصد إلى أخذ الدرس للحاضر أو استخلاص العبرة للمستقبل.

ومع ذلك يجب أن أسجل اعترافا ثالثا، وهو أنني لم أكن قد بيت النية على أن تكون تلك المقالات هي ما أعنيه الآن بـ "تأملات".

فمن جهة كان مشروع "التأملات" قائما في ذهني عندما بدأت أكتب تلك المقالات، وبقي حاضرا في ذهني إلى اليوم، ومع ذلك فلم يخطر ببالي قط أن أجعلها تندرج بصورة أو أخرى في هذه "التأملات". ولعل السبب في ذلك شعوري بأن إطار تلك المقالات يختلف عن إطار "التأملات"، على الأقل من جهة واحدة، ولكن أساسية. ذلك أنه عندما أكتب في جريدة أو مجلة أو عندما أنهمك في تأليف كتاب فإن الإطار الذي أفكر داخله وأعمل ضمن حدوده، إطار محدود بحدود متعددة: منها الحدود التي تتحرك فيها الجريدة أو المجلة أو الكتاب، ومنها ما يتصل بـ "الصنعة"، ومنها ما يفرضه الحجم المخصص أو المقبول، ومنها ما تفرضه الرقابة الذاتية أو الحدود المقررة سياسيا وفكريا الخ.

ومن جهة أخرى كنت أشعر، وما زلت، أن مجال التأملات، يجب أن يكون مجالا حرا، متحررا من تأثير كل يمكن التحرر منه: متحررا مثلا من قيود عدد الكلمات أو الصفحات، ومن حدود الاختصاص وقيود المنهجية والصنعة مثل تسلسل الأفكار ووحدة الموضوع... ومتحررا كذلك من اعتبار مسؤولية الناشر، جريدة كان أو مجلة أو دار كتب... ومتحررا أيضا مما يمكن التحرر منه من القيود والاعتبارات الراجعة إلى الرقابة الذاتية... والتحرر من ذلك كله لا يمكن أن يتحقق إلا في مجال واحد، مجال الانترنيت.

من أجل هذا قررت أن أخص منبري على الانترنيت بهذه "التأملات"، أكتبها باسترخاء وفي حرية من القيود الخارجية.

تبقى القيود الداخلية التي تفرضها الرقابة الذاتية أو الميولات الشخصية، الفكرية والسياسية..! وهنا أعد القارئ بأني سأجتهد في التقليل من تأثيرها وتوجيهها. أما التحرر منها كلية فشيء غير ممكن الآن على الأقل. وقد يصبح ذلك ممكنا عندما يصير من المألوف اليومي أن يمشي الناس في الشارع، ويدرسوا في المدرسة والجامعة، ويعملوا في المعمل، ويلعبوا كرة القدم الخ، عراة كما يكونون في الحمام منفردين أو مع زوجاتهم. علما بأن هناك من يحرص على ستر العورة حتى في هاتين الحالتين!

لقد قيل في تعريف الإنسان إنه "حيوان عاقل"، ومع ذلك فهو يتصرف في كثير من الأحيان، إن لم في معظمها، بدون استشارة العقل. وقيل في تعريفه أيضا إنه "حيوان مدني"، ومع ذلك فأكثر تصرفات الناس عبر التاريخ كانت، وما تزال، بعيدة من أن توصف بأنها تصرفات مدنية. ويخيل إلي أني قرأت يوما تعريفا للإنسان يقول : "الإنسان حيوان يستر عورته". ومع أن هذا التعريف قد بدا لي، أول الأمر، وكأنه جامع مانع لا استثناء فيه ، فقد وجدت نفسي مع ذلك أتساءل: أليست هناك مسابح تكتظ بالعراة من كل خرقة؟ ألا يصادف المرء أحيانا في شوارع بعض البلدان الأوروبية أناسا يمشون عراة حفاة؟ ثم أليست الحيوانات كلها –تقريبا- مستورة العورة، كلا أو بعضا،  بشكل أو بآخر: الريش في الطيور، الذنب في البهائم، تجاعيد الجسم في الزواحف الخ؟ حيوان واحد يمشي عاريا، هو ذلك الصنف من القردة الذي لا ذنب له! ولعله أقرب خلقة من الإنسان! وإذا صح أن "أصل الإنسان قرد"، كما يقول "الداروينيون"، فإن ظاهرة العري في الإنسان قد تشخص معنى عبارة : "الرجوع إلى الأصل"؟

ومهما يكن، فالرجوع بالشيء إلى أصله معناه تجريده من جميع "الانحرافات" و"الشوائب" التي لحقته ... معناه تعريته!

وإذن فهذه التأملات، التي نريدها أن تكون حرة، تطمح إلى النظر إلى الموضوعات التي ستتناولها عارية كما هي في أصل "خلقتها" ... في ابتداء نشأتها..! ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن "الناظر" لا يستطيع "النظر" إذا تعرى من كل ما أضيف إلى "أصل خلقته وابتداء نشأته"! النظر يتطلب دوما "نظارات"!